الحبّ،... أوّله...*

سنتي على جناح السّرد – النّص 07 من 53 – 21 مارس 2008


الحبّ،... أوّله...*
الإهداء : إلى نادي القصّة "أبو القاسم الشّابّي" بتونس، إلى كلّ مبدع ساهم في نشاطه منذ تأسيسه سنة 1961


"أرجوك يا سي النّاصر لا تسخر منّي. بل لا تسخر منّا، نـحن المبتدئين الجدد جميعا. إنّك تعطينا هذه الاستمارات من باب دفع الملام ليس أكثر. كيف تريدنا أن نكتب نصوصا تستجيب لهذه المقاييس التقنية الصّارمة ؟ أبَعدَ كلّ هذه الشروط التي كنت تسرد علينا منذ حين، تريدنا أن نجازف بالتباري معكم؟
ثمّ مع من تريدنا أن نتسابق، ونـحن لم نصبح أعضاء في النادي إلاّ منذ بداية السنة الجديدة ؟ معك أنت ؟ مع الأستاذ الكبير منير عارف ؟ مع محمود بلعيد وأحمد ممّو ونافلة ذهب ويوسف عبد العاطي، ولا أدري من سيشارك من الأعضاء الآخرين ؟
هل تتصوّر أن نشركم الإعلان على صفحات الجرائد وتأكيدكم على القيمة المالية الاستثنائية لهذه الجائزة الجديدة، سوف لن يغري كلّ من انقطع عن الكتابة بالعودة للمشاركة في المسابقة ؟ لماذا تضع أمامي هذه الاستمارةَ إذن ؟ ألوضعي أمام عجزي ؟ أم لتسمع منّي اعترافا بأنني رغم تقاربنا في السنّ أبعد من أن أكون لك ندّا ؟"
هكذا ردّ حمّادي رجب الفعل، حين مدّه النّاصر التّومي باستمارة الترشح لمسابقة جديدة بعثها نادي القصّة أبو القاسم الشّابّي. ردُّ فعل يبدو بلا مبرّر مقنع، ولكن فيه شحنة واندفاع يشيان بألم صادق،
وقف فجأة وكاد يغادر قاعة الجلسة معلنا مقاطعته نهائيّا نشاط النّادي، لولا أنّ أحمد ممّو، رئيسَ الجلسة، استوقفه للتّوضيح بكياسته المعهودة وبلهجة تجمع بين الدبلوماسية والصّرامة :
- "لك أن تنصرف متى شئت يا سي حمادي. ولكن من واجبي أن أشرح للجميع نبل أهدافنا وصدق نوايانا وأصالة تقاليدنا العريقة في هذا النّادي الفريد من نوعه في العالم العربي، خاصّة من حيث الشّفافية وانتظام النّشاط..."
لم ينته توضيح رئيس الجلسة، إلاّ وقد عاد الهدوء إلى قاعة الجلسة وغمر قلوبَ الحاضرين دفءُ الشعور بالأخوّة والمحبّة الصّافية والمتبادلة، واندفع حمادي رجب يقبّل النّاصر التّومي ويعتذر منه وهو لا يكاد يصدّق ما كان يسمع :
"أنا، حمادي رجب، أعامل في نادي القصّة على قدم المساواة مع منير عارف ورضوان الكوني والآخرين؟ أنا الذي ما جئت إلاّ متفرّجا عليهم ؟ أنا الذي ما تطلّعت إلى أكثر من الجلوس بجانب واحد منهم ؟
أنا، حمّادي رجب، يمكن أن أبدأ من الآن في كتابة قصّة ؟ ويمكن لقصّتي أن تنال الجائزة ؟"

"الحبّ، أعزّك الله، أوّله هزل وآخره جدّ" .

*****

بعد الجلسة، بينما كان يبارح النّادي مع بعض الجدد الآخرين، قال له الهكواتي بلهجة تجمع بين الجدّ والمزاح :
- "لا تستمع خاصة إلى أولئك الذين يخيفونك بحكاية تقنيات الصّياغة السّردية هذه. ولا تملأ رأسك بالنّظريّات الفارغة. فليس هناك أسهل من كتابة قصّة: تأخذ الحاسوب ..."
قاطعه حمّادي رجب موضّحا أنّه لا يملك حاسوبا ولا يحسن التعامل مع الإعلامية إطلاقا. ولكنّ الهكواتي ظلّ مصرّا على إقناعه بأنّ كتابة القصّة تستجيب لوصفة ليس هناك أسهل منها، حتى بلا حاسوب :
- "أوّلا تأخذ قلما وأوراقا، وثانيا تجلس إلى مكتبك مركّزا كما ينبغي، وثالثا تكتب القصّة، ورابعا تشارك بها في المسابقة وينتهي الأمر.
*****
بعيدا عن كلّ مزاح، كان حمّادي رجب يشعر برغبة، بل بحاجة فعليّة إلى كتابة قصّة، بقطع النّظر عن المشاركة في المسابقة من عدمها. لماذا لا يحاول إذًا ؟ وإذا وجد نفسه قادرا على كتابة نصوص مقنعة في هذا الجنس، فلماذا لا يشارك ؟ فالعبرة ليست بالحصول على الجائزة، بل بقطع خطوة أولى في مسلك جديد.
أخذ القلم والأوراق وجلس إلى مائدة المطبخ مركّزا. مرحلتان كاملتان من رحلة إبداع قصّته قطعتا هكذا إلى هذا الحدّ. بقيت المرحلة الثالثة: كتابة القصّة ذاتها. كيف سيكتبها؟ تلك هي المعضلة.
عصر دماغه ساعة كاملة. أعدّ قهوة سوداء بدون سكّر. دخّن ثلث علبة السّجائر. وكاد يقرّ بفشله من قبل أن يكتب كلمة واحدة. ولكنّه تذكّر أنّ أحد روّاد النّادي يبدأ الكتابة دائما بابتكار شخصيات لقصّته. يحدّد ملامحها المميِّزة ثمّ يبني، على ضوء تلك الملامح، كامل القصّة. لماذا لا يفعل مثله ؟ فكرة جيّدة فعلا. فعلى كلّ مبتدئ، في أيّ مجال، أن يقتدي دائما بمن سبقه أو كان أرسخ منه قدما.
بدأ يفكّر. كيف تُبتكر شخصية قصصيّة ؟ الأمر ليس بهذه السّهولة. عصر دماغه ثانية. أعدّ قهوة سوداء ثانية، بدون سكّر دائما. دخّن الثّلث الثّاني من علبة السّجائر. ولكنه لم يجد شخصيّة واحدة.
من التقليد إلى الاقتباس توجد خطوة واحدة. سيقطعها ويجرّب. من قال إنّ العملية لن تمرّ بسلام ؟ مئات السّرقات الأدبية تقترف كلّ يوم. ولا يتفطّن المعنيون لأكثر من واحدة منها على مائة. هاهو يتذكّر لمحمود بلعيد قصّة فيها خمسين حمّادي بالتّمام والكمال*. فهل سيتفطّن إذا اختلس له منها ثلاثةً فقط ؟
خطّ على ورقته البيضاء ثلاثةَ أسطر متباعدة. في السّطر الأوّل حمّادي الأوّل وفي السّطر الثاني حمّادي الثاني وفي السطر الثالث حمادي الثالث. ثمّ بقي يتأمّل الورقة حتّى تملّكه خوف مريع. سيكون واضحا، من أسماء الشخصيات وحدِها، أنّ قصّته مسروقةٌ. معضلة جديدة، لا يدري كيف يتجنّبها.
عصر دماغه من جديد. أعدّ قهوة سوداء جديدة، بدون سكّر دائما. دخّن الثلث الأخير من علبة السّجائر. وحيث تجاوزت السّاعة الواحدة صباحا ولم يجد حيلة يدفع بها عن نصّه شبهة السّرقة الأدبية، ترك كلّ شيء على حاله في المطبخ وأطفأ النّور ودخل لينام. *****

سوف لن يصدّق أحد من أعضاء النّادي أنّ حمّادي رجب أيقظته من نومه فكرة لإنقاذ قصّته. ولكن هذه هي الحقيقة. تذكّر وهو يحثّ الخطى إلى حمّاص* الحيّ ليشتري علبة سجائر، تذكّر تصريحا أدلى به أحد الأدباء لبرنامج تلفزي يقول فيه إنّه ما اقتنع بأنّه يصلح للكتابة الأدبيّة إلاّ ليلة أيقظته من نومه فكرة نصّ جديد.
هكذا، لم يعد عند حمّادي رجب أيّ شكّ في أنّه أصبح يصلح للكتابة الأدبية. كانت فكرته في غاية البساطة. سيغيّر أسماء "الحمّاديات"، وهكذا لا يتفطّن أحد للسّرقة. ولأنّها أوّل مرّة يكتب فيها قصّة، رأى أن يؤرّخ لهذا الحدث بحفظ كلّ الأوراق المستعملة لكتابة نصّه كما تُحفظ وثائق المحاسبات المتعلقة بالعمليات العقارية في الوكالة التي تشغّله.
أخذ علبة أرشيف ومجموعة ملفّات. ثمّ أخذ ورقة "الحمّاديات" فحفظها في ملفّ سمّاه "المحاولة الأولى – حمّاديات". وحتّى يمحو من ذاكرته كلّ آثار هذه المحاولة الأولى، غسل منفضته ونشّفها واستبدل القهوة السّوداء بشاي بالحليب على الطّريقة الإنقليزية مع سكّر خفيف. وها هو يجلس مركّزا من جديد على قصّته.
كتب على ورقته البيضاء الجديدة ثلاثة أسطر جديدة. تماما على أنقاض الأسطر الثلاثة التي بقيت غائرة من آثار الورقة المحفوظة. منير الأوّل في السّطر الأوّل ومنير الثاني في السطر الثاني ومنير الثّالث في السطر الثالث. أخذ بعض مسافة ليتأمّل جيّدا ما كتبه. ولكنّه لم يقتنع بأنّ كلّ تشابه قد زال بين "منيراته" و"حمّاديات" محمود بلعيد.
قال في نفسه : "ما ينقصني هو الحاسوب. كلّ هذا ما كان ليقع لو كان عندي حاسوب". أخذ الورقة الجديدة وما كان تحتها من أوراق تحمل آثار الأسطر الغائرة وخصّص لها ملفّا جديدا حفظه في علبة الأرشيف. فكّر أنّه لو خفّف ضغطه عن القلم عند الكتابة، لأمكنه منع ملامح الشخصيات المكتوبة على الورقة العليا من التسرّب إلى شخصيات الورقة التي تحتها متى عنّ له أن يبدّل شيئا في ما كتب.
ليضحكْ منه أعضاء النّادي ما طاب لهم الضّحك، ولكنّه اكتشف أيضا أنّ الشّاي بالحليب أنسب للمساعدة على ابتكار الشخصيات من القهوة السوداء بدون سكّر. ودليله أنه بمجرّد أن شرب جرعتين من شايه، وقبل أن يطفئ سيجارته الثانية، جاءته فكرة تغيير أرقام "المنيرات" بألقاب ملفّقة كما اتّفق. وهكذا صار منير الأوّل منير أبو رجب ومنير الثاني منير بن عارف ومنير الثالث منير عبد السّميع.
لم يبق من شبه مع "حمّاديات" بلعيد إلاّ علاقة هذه الشخصيات بأزقّة المدينة العتيقة. ولا شيء أقدر من الشاي بالحليب على حلّ المشكلة. وفعلا، أجهز حمادي رجب على ما تبقى في الكأس من شاي في جرعة واحدة فجاء الحلّ سريعا : منير أبو رجب يشتغل في وكالة عقارية بالمنار الثاني ويسكن في العمران الأعلى. ومنير بن عارف صاحب محلّ لبيع النّظّارات الطّبية يقع في الضّفة الأخرى من الشارع قبالة الوكالة العقارية. أمّا منير عبد السّميع فهو العجوز صاحب المقهى الذي اعتاد منير بن عارف أن يجلس فيه إلى حلقة من رجال الثقافة، والذي أخذ منير أبو رجب يرتاده منذ شهرين ونيف لمراقبة حركات وسكنات منير بن عارف دون أن يتفطّن إليه.

كم قصّة، كم شخصيّة، كم كاتبا مرّوا أمام أعين هذا الرّجل المتفاني في خدمة الثقافة بنادي القصّة أبو القاسم الشابي- عم محمّد الجابري - ذاكرة المكان منذ سنة 1959 أي قبل تأسيس نادي القصة بسنتين

*****

هكذا انتهى كلّ شبه مع "الحمّاديات". فكّر حمادي رجب، ليتأكّد من ذلك، في أن يعرض شخصياته المعدّلة على محمود بلعيد نفسه ليرى إن كان سيتفطّن إلى أنّ أصلها الأصيل "حمّاديات" تمّ تغيير ملامحها لمحو كلّ آثار للسرقة. ثمّ خيّر أن يُتمّ القصّة أوّلا ثمّ يقرأها عليه بعد ذلك فيتحدّاه في سرّه أن يتفطّن للاقتباس.
كانت ساعته اليدويّة تشير إلى قرابة السّابعة صباحا حين عادت زوجته عائدة حسين من عملها في المصحّة. هو الآخر قضّى ليلة بيضاء. ولقد أثمرت جهوده مسودّات جديدة يمكنه تنظيفها في ما لا يقل عن ثلاث صفحات، دون احتساب الملفات المحفوظة. إنّه لحصاد جميل.
رتّب أوراقه بسرعة وهبّ لاستقبال زوجته. لم يدع لها فرصة لسؤاله عمّا يفعله صاحيا في مثل هذه السّاعة، وهو الذي تعوّدت أن تجد صعوبات جمّة في إيقاظه دون اللجوء إلى استعمال كلّ قوّتها.
في ذلك الصّباح، دفع عنه فخرُه بإنجازه الأدبيّ كلّ ما كان يخامره من شكوك في وفاء زوجته له. فجرّدها من ملابسها واندسّا عاريين تحت الغطاء مستسلمين، في الحين، لنوم عميق وجدِّ مريح. *****

لم ينتظر أحد من أعضاء النّادي أن يتغيّر موقف حمّادي رجب من النّقيض إلى النّقيض فيصبح أوّل من يعمّر استمارة الالتزام بالمشاركة في المسابقة. وقد كتب في خانة "العنوان الأوّلي للقصّة" : "شيء في صدر منير".
لفت النّاصر التّومي انتباهه إلى ضرورة التّثبّت من هذا العنوان الذي يذكّره برواية للمصري إحسان عبد القدّوس. ونصحه بتغييره قبل إيداع نصّه. في ما عدا هذه الملاحظة، قابل الجميع ترشّحه بكلّ ارتياح. بل إنّ محمود بلعيد عبّر له عن دعمه وتشجيعه مطلقا عليه لقب "حامل لواء الأعضاء الجدد".
آه لو يعرف في أيّ قدر طبخ حمّادي رجب شخصيات قصّته الموعودة.
قبل نهاية الجلسة وصل خبر جدّ مشجّع، ليس لحمّادي رجب وحده ولكن لكثيرين ممن هم أرسخ منه قدما. فقد أعلن الأديب الكبير منير عارف في مكالمة هاتفية مع رئيس النّادي أنّه قبل، استجابة لطلب من الدّوائر الرّسمية، مقترح تعيينه رئيسا للجنة التحكيم. ما يعني أنّه لن يشارك في المسابقة بصفة مُرَشّح.
أدخل الخبر ارتياحا كبيرا على عدد كبير من أعضاء النّادي كانوا مترددين في المشاركة. لأنّ مجرّد دخول هذا القاصّ الاستثنائي غمار المنافسة سيجعل النتائج محسومة منطقيّا لفائدته. فمن ذا يتصوّر غيره فائزا بهذه الجائزة وهو الأديب ذائعُ الصّيت عالميُّ المكانة ؟

*****

لم تدم فرحة حمادي رجب بترشّحه أكثر من الوقت الذي استغرقته مراجعته النّسخة الأخيرة من مسودّة قصّته. ترك قهوته ولمّا يشرب نصفها بعد. وجلس وراء مقود سيارته مهموما. وانطلق عائدا في التّوّ إلى بيته. يبدو أنّ جوّ المقهى لا يساعده بالمرّة، وأنّ نصيبه من الوحي الأدبي يقيم في مطبخ بيته في العمران الأعلى، ولا يعنيه ارتيادُ مقاهي وسط المدينة.
تبيّن له من هذه القراءة الجديدة أنّ نصّه ما زال يتطلّب جهدا أضنى بكثير مما بذله إلى حدّ الآن. بل إنه عثر فيه على ثغرتين خطيرتين بالتأكيد. أولاهما أنّ القصّة لا تتوفر حتّى الآن على أكثر من عنصر وحيد من العناصر الضّرورية للبناء السردي، وهو عنصر الشّخصيات. في حين أنّ الأهمّ في كتابة القصّة هو الأحداث ولا الشخصيات.
أمّا الثغرة الثانية وهي الأخطر فتتجلّى في هذا التّماثل الصّارخ بين شخصيّة منير بن عارف وشخص الأديب الكبير منير عارف من جهة، وبين شخصيّة منير أبو رجب وشخص المؤلّف بالذّات من جهة ثانية.
كيف لم يتفطّن إلى هذه الأخطاء الملعونة إلاّ في هذه الليلة المشؤومة ؟ لماذا الآن بعد أن قدّم التزامه بالترشح وبعد أن ثقلت مسؤوليته بلقب "حامل لواء الأعضاء الجدد" ؟
لا ... هو ليس قاصّا ولم يكن قصده أبدا أن يصبح قاصّا. ولن يتمكّن أبدا من إتمام هذا النّصّ. ستكون فضيحته مدوّيةً. ولهذا إنّما اتخذ قراره بالتراجع حالاّ. أخرج هاتفه الجوّال وأخذ يبحث فيه عن رقم النّاصر التّومي ليطلب منه عدم اعتبار الاستمارة التي أودعها عنده منذ حين. ولكنّ تفطّنه إلى وجود شرطيّ ينظّم المرور في مفترق الطرقات دفعه إلى إخفاء هاتفه والعدول عن المكالمة.

*****

تعرف عائدة حسين أن زوجها قد يتأخّر في العودة إلى البيت، يوم السبت، بسبب نشاطه في نادي القصّة. لذلك تركت له عشاءه مغطّى بمنديل أبيض عريض يغطّي نصف المائدة. وتركت على المنديل ورقة مكتوب عليها "إن لم أعترضك في الحيّ فسأذهب في تاكسي... إلى اللقاء صباح الغد يا حبيبي". وغادرت إلى شغلها في المصحّة.
علت ملامح حمّادي رجب ابتسامة صفراء وهو يقرأ الورقة دون أن يلمسها. وقال في نفسه بلهجة المتحدّي وكأنّه يجيب على خطاب زوجته : "رغم أنفك يا عزيزتي، ورغم ثمن التاكسي، سأنجح في إتمام هذه القصّة العاهرة بنت العاهرة. ولن أتراجع أبدا عن التّرشّح مهما حدث". وجلس إلى الجانب الآخر من المائدة. فلا وقت لديه للعشاء الليلة.
ليس كالسجائر والشاي بالحليب لمداواة ما فسد من نصوص. تأكّد من حسن تنظيم مسودّاته داخل علبة الأرشيف ثمّ نصب "عتاده" وجلس مركّزا كما ينبغي للانطلاق في العمل.
لقد توصّل بالممارسة إلى الاقتناع بأنّ الكتابة عمل منظّم، وبأنّ الإبداع صبر على آلام الحمل والوضع. "على هذه المبادئ إنّما قامت علاقة كبار الأدباء بالكتابة". هكذا قال الأقدمون. وما عليه إلاّ أن يتصرّف مثلهم.
أضحت التقنية الآن معلومة لدى حمّادي رجب. وأصبح له من الخبرة ما يكفي لصبغ أيّ شخصيّة إلى حدّ طمس ملامحها القديمة حتى لا يتعرّف أحد على أصلها.
وبقدرة قادر، أصبح منير بن عارف منير الغول وتحوّل محلّه من حي المنار حيث يوجد فعلا محلّ منير عارف إلى حيّ العمران الأعلى حيث لا يوجد محلّ لبيع النّظّارات الطّبيّة أصلا. كما تحوّل منير أبو رجب إلى منير بوساطور. وحتى يبعد حمّادي رجب عنه الشبهة تماما جعل من هذه الشخصية وكيل دكّان لبيع التبغ والجرائد مقابلا لمحلّ النّظّارات الطّبّية. وهو بالطبع دكّان لا وجود له في الواقع إطلاقا.
أمّا منير عبد السّميع. فشخصيّته تحيل على رجل مسكين لا يرجى منه أيّ نفع ولا يخشى منه أيّ أذى. لذلك قرّر أن يبقيه كما هو لينظر في شأنه لاحقا. فمن يدري ؟ ربّما أوجد له دورا هامّا في آخر القصّة.
يمكنه الآن أن يتفرّغ لابتكار بعض الأحداث لقصّته وهذا هو الأهمّ. دخّن سيجارتين وهو يفكّر ثم كتب :
"منير الغول رجل شرّير زانٍ لا يحترم نساء خلق الله. يهديهنّ الورود ثمّ يعبث بشرفهنّ ليروي بعد ذلك مغامراته معهنّ لروّاد حلقته في مقهى منير عبد السّميع. وهكذا يفضحهنّ دون أن يغيّر حتّى أسماءهنّ. بل إنّه يعطي عناوين دقيقة، قد تمكّن من الوصول إليهنّ، بل قد تحرّض بعضهم على محاولة خوض نفس المغامرات معهنّ."
استغرق في الحلم مدخّنا ثلاثة سجائر أخرى ثمّ كتب :
"منير بوساطور رجل طيّب حنون وزوج وفيّ يحبّ زوجته حبّ عبادة. ولكنّ صروف الحياة جعلته يحرم من رفقة محبوبته طيلة الساعات التي يتمتع فيها الرّجال الآخرون جميعا برفقة زوجاتهم. وهكذا كان الشّيطان يجد الطريق سالكة ليوسوس له كلّ ما من شأنه جلب الشّكّ وطرد اليقين، فيوحي إليه بأحداث لا يمكنه أن يتأكّد من حقيقة حدوثها ولكنه لا يجد أيّ دليل صريح ينفيها نفيا قطعيّا."
كان مصرّا، رغم شدّة الإجهاد وخواء علبة السجائر، على إعادة قراءة مسودّته الجديدة مرّة أخرى. لم يجد الصّياغة سيئة بالمرّة ولكنه أقرّ بأنّ نصّه ما زال في حاجة إلى بذل مزيد من الجهد.
فلئن لم يعد بالإمكان التّعرّف على منير عارف في شخصية منير الغول ولا التفطّن إلى الشبه بين شخص الكاتب وشخصيّة منير بوساطور، فإنّ قصّته ما تزال مفتقرة إلى حدث فعليّ يفجّر الموقف ويزرع فيها عنصر التشويق فيشدّ انتباه القارئ شدّا متواصلا.
فرض على نفسه تعسّفا أن يواصل فكتب :
"عاش منير بوساطور عيشة قارئ عاديّ يعشق المطالعة، حتّى قادته قدماه يوما إلى طاولة في مقهى منير عبد السميع أمكنه منها سماع كلّ ما يروى في حلقة الكاتب منير الغول."
رأى حمادي رجب في هذه الفقرة بداية طيبة لظهور حدث جيّد. ولكن لم يعد بإمكانه أن يمسك القلم لمزيد إثراء قصّته. سيهتم بهذا الأمر بعد بضع ساعات من الرّاحة.
"لا توقظيني يا حبيبتي فقد نمت في السّادسة صباحا". ألصق الورقة على باب غرفة الجلوس ونام على الأريكة تاركا لعايدة حسين غرفة النّوم كاملة.

*****

حين صحا من كوابيسه كان بلّور النّافذة يضاعف قوّة أشعّة الشّمس ويركّزها على الموضع الذي كان يحتلّه رأسه من الأريكة. السّاعة جاوزت الثانية بعد الزّوال وبرأسه صداع شديد. ومع ذلك، فلا شيء يشغل بال حمّادي رجب غير الأحداث التي عليه خلقها لإثراء قصّته.
زوجته مازالت نائمة ومازال على مائدة المطبخ عشاؤه المغطّى بالمنديل الأبيض منذ البارحة. لكنّ الورقة تغيّرت : "من ترك عشاءه لغدائه ربحه ... دعني أستيقظ على راحتي... قبلاتي يا عزيزي."
كان شديد الجوع. فالتهم كلّ المكارونة التي حوتها الجفنة غير عابئ بما بدأ يخالط طعمها من مذاق عَطِنٍ. بل أجهز معها على كلّ الخبز. لكنّه حين نثر أوراقه من جديد على الجانب الآخر من المائدة وشرع في التركيز استعدادا للكتابة، لم يجد لديه سيجارة واحدة. فقرّر أن يخرج لشراء علبة جديدة.
من عادة عائدة حسين أن تجلب معها من وقت لآخر باقة زهور كهذه التي لم تجد القوّة لوضعها في مزهرية فتركتها هنا، بجانب باب الدّخول. كانت دائما تشرح له أنّ مرضى مصحّة الشّفاء حيث تشتغل، والذين تهدى لهم هذه الباقات بعدد أكبر مما تتسع له غرفهم، يوزّعون ما يزيد عن حاجتهم على الممرضات اللائي تسهرن على راحتهم. ولكنّ البطاقة التي نسيت زوجته سحبها من الباقة هذه المرّة لم تترك له أيّ مجال لتصديق مزاعمها.
هاهو الدّليل القاطع على أنّ زوجته تعبث بشرفه بينما يظنّها تشتغل بالليل لمجرّد مساعدته على مجابهة صروف الحياة الصّعبة. فهذه البطاقة معروفة لديه جيّدا، وقد حصل على نسخة منها من المعني مباشرة، من هذا الرجل الذي صار اليوم يقابله كلّ أسبوع تقريبا ويتحدّث إليه ويعرف عنه كلّ كبيرة وصغيرة. إنّه الأديب منير عارف. أجل ... وكما لو أنّ البطاقة لا تكفي وحدها لإدانة عائدة حسين وأديبها النّزق، ها هو يقرأ عليها ما خُطّ بقلم حبر منير عارف الأخضر، وبخطّه الذي لم يعد عنه غريبا: "على جناح محبّتي الخالصة".
أظلمت الدّنيا أمام عيني حمّادي رجب. كاد يصيح "أيقظوني من هذا الكابوس". أخذ البطاقة وجرى إلى الخزانة التي يرتب فيها بعض كتبه فسحب منها مجموعة منير عارف القصصية. وجد نفس البطاقة في الصّفحة التي بها قصّة "قميص النّوم". وهي قصّة يتحدّث فيها منير عارف بضمير المتكلّم عن مغامرته مع الممرضة عائدة حسين التي تشتغل تحديدا بمصحّة الشّفاء حيث كانت تؤمّن الحصّة الليلية، في الوقت الذي كان هو نفسه مقيما هناك بسبب وعكة خفيفة.
قرأ الفقرة التي يصف فيها الكاتب بالتفصيل كيف استدرج الممرضة حتّى استسلمت له في غرفته. وكيف فعل معها ما فعل، وكيف تركت له قميص نومها الأحمرَ تذكارا.
فجأة اختلط عليه الشخص والشخصية، واللّيل والنّهار، والحقيقة والخيال، والواقع المعيش والهواجس.

*****

من ذا الذي فتح على زوجته باب غرفة النّوم ؟ حمّادي رجب أم منير بوساطور ؟ كلّ ما يدريه هو أنّه انبهر بقدرة عائدة حسين على النّوم بمثل هذا الاطمئنان بعد أن قضّت ليلتها تدوس شرفه مع منير الغول أو منير عارف.
لا بدّ أن يبذل الآن كلّ ما في وسعه حتّى ينبهر من يكتشف المشهد لاحقا ببرودة دم حمادي بوساطور حين يذبح زوجته من الوريد إلى الوريد. ولا بدّ كذلك أن لا يظهر أيّ أثر للجريمة التي سيرتكبها على ملامحه متى خرج إلى الشّارع. عليه أن يعرف كيف يقابل كلّ الذين سيعترضونه في الطريق بصوت هادئ وملامح توحي بالاطمئنان الكامل.
كان السّاطور جاهزا منذ أسابيع وقد أخفاه حمادي رجب وراء عرمات الجرائد التي لم تبع والتي لم يسترجعها الموزّع بعد. وكان الوقت قرابة الثامنة ليلا وهذا النّهج من حيّ العمران الأعلى يكاد يكون خاليا بعد أن عاد كلّ ساكنيه إلى بيوتهم وركّزوا كلّ انتباههم على المسلسل التّلفزي الجديد.
كان من عادة منير الغول أن لا يبارح محلّه إلاّ بعد نصف ساعة من مغادرة العاملين معه. وها أنّ جميعهم خرجوا. كانت العارضة البلّورية منطفئة الأنوار وكان السّتار الحديدي نصف مسدل. نظر منير بوساطور يمنة ويسرة ثم أحكم إقفال باب دكّانه الحديديّ وعبر النّهج لينـحني بسرعة تحت الستار الحديدي قبل أن يغيب في محلّ جاره.
أغلق خلفه الباب البلّوريّ برفق ونادى صاحب المحلّ بصوته الهادئ المطمئنّ:
- سي منير ...
خرج الأديب منير عارف من مكتبه مرحّبا بحرارة برفيقه في نادي القصّة دون أن يخفي استغرابه من حضور حمّادي رجب لديه في مثل هذه السّاعة ودخوله إلى محلّه رغم الستار الحديدي المسدل. ولكن منير بوساطور لم يترك له الوقت لفهم أي شيء. أخرج ساطوره من تحت معطفه وفصل رأسه عن جسده بحركة سريعة وحاسمة، تماما كما فعل بزوجته.
حين أحسّ حمادي رجب دماء غريمه تنزف بغزارة على وجهه وثيابه ثمّ على الخزائن البلّورية، حين شاهد هذا الجسد يهوي على الأرض، شعر برغبة مجنونة في مزيد طعنه ليروي كامل عطشه للانتقام. فجثا على ركبتيه وانهال عليه بضربات من ساطوره لا عدّ لها حتّى همدت في الجثّة كلُّ حركة.
عندها فقط عاد إلى حمّادي رجب وعيه، فأيقن حقيقة ما فعله بزوجته وبعشيق زوجته. وتملّكه خوف شديد. لم يعد له من حلّ ليخرج من الورطة القذرة التي أوقع فيها نفسه سوى الهروبِ إلى الأمام. وليس أمامه الآن غير الانتحار للحاق بالكائنين الذين دنّسا شرفه.
أخرج من الجيب الصدريّ لمعطفه قصّته الممهورة "شيء في صدر منير". وكان قد أتمّ كتابتها بكلّ برودة دم قبل الخروج لتنفيذ المشهد الثاني من عمليته الانتقامية. نثر على جثّة منير عارف أوراقا مكتوبة بخطّ جميل. ورفع في الهواء ساطورا مازال يقطر دما ليهوي به بسرعة على صدره، في موضع القلب تحديدا.
حين تصل الشّرطة ستُدرج قصّته في ملفّ القضيّة وسيسجّل التّاريخ لحمّادي رجب أنّه لئن مات مجرما بعد أن عاش مطعونا في شرفه فإنّه من كشف حقيقة منير عارف. هذا القاصّ الذي لا يكتب إلاّ ترفا لمجرّد تخليد عربداته وتسجيل اعتداءاته على حرمات النساء وشرف الرّجال.

يهديهنّ الورود ثمّ يعبث بشرفهنّ ليروي بعد ذلك مغامراته معهنّ

*****

انتهت القصّة. أو لعلّها لم تنته. لم يكد حمادي رجب يصدّق أذنيه، حين رنّ جرس الهاتف في غرفة النّوم. إنّه مازال هنا، حيّا يجلس في مطبخه ويعيد قراءة مسودّة قصّته في نسختها الأخيرة ودموعه تنهمر بغزارة فتكاد تمنعه من فرز الأسطر وتعرّف الكلمات.
ها هو صوت زوجته، تجيب على الهاتف بفزع وحرقة. أووف... هاهو أخيرا يعود فعليّا إلى حالة الوعي. ومهما كان الخبر الذي يساق إلى زوجته في الهاتف محزنا، فإنّه لن يفسد عليه فرحته بأنّه لم يرتكب جريمة إلاّ في خياله. بل لعلّ الوقت الذي قضّاه يتخيّل ما تخيّله قد شحنه بشيء من الرّاحة النّفسيّة، تماما كما لو أنّه انتقم فعلا لشرفه.
*****
حالما أكملت زوجة حمّادي رجب مكالمتها الهاتفية هرعت إلى المطبخ مضطربة لتعلمه بالخبر :
- يا لطيف يا حمّادي، هل رأيت باقة الزّهور؟ الرّجل الذي أهداني إياها توفّي منذ حين.
هبّ حمّادي رجب واقفا ورأسه على وشك أن ينفجر :
- لا تجنّنيني أرجوك. من قتل منير عارف ؟ كيف مات ؟
فوجئت عايدة حسين بما وجدت عليه زوجها من انفعال، فحاولت كبح اضطرابها لتجيبه بكلّ هدوء:
- من هو منير عارف هذا ؟ الميت اِسمه منير عبد السميع وأنت تعرفه جيدا فهو صاحب المقهى المقابل للوكالة حيث تشتغل. أجريت عليه عملية جراحية عاجلة هذا الصّباح فمات من تأثير البنج.
في تلك اللحظة فقط استيقظ حمّادي رجب من شبه غيبوبة نفسيّة تواصلت أكثر من ثلاثة أشهر. هل يمكن أن يصل التشابه بين الخيال والحقيقة إلى هذا الحدّ ؟ ولكن هل صحيح أن زوجته لا تعرف منير عارف ؟ ما الذي يثبت دعواها ؟ ولكن ما الذي يثبت العكس ويؤكّد صحّة ما ورد في قصّة منير عارف ؟ ما الذي يثبت أنّ اسم عائدة حسين ومهنتها واسم المصحة التي تشتغل بها ليست كلّها من صنع خيال منير عارف ؟
ما الذي يحول دون حمادي رجب والاقتناع بأن كلّ تطابق بين الواقع والأحداث والشخصيات والأماكن الموجودة في "قميص النّوم" ليس أكثر من محض صدفة ؟ ولماذا لا يصدّق زوجته، وهو من خبر الآن ألف وصفة ووصفة لاختلاق شخصيات وأحداث من لا شيء ؟
لم يعد مهمّا أن يصدّقها أو لا يصدّقها. فالأهمّ الآن هو أن يعي أخيرا بأنّ الكتابة الأدبيّة ليست مجرّد أداة ينفّس بها كاتب عن مشاكله الشّخصية.
الأهمّ الآن هو أن يتّخذ قراره نهائيا بالتراجع عن المشاركة في المسابقة. وقد يبقي على كلّ ما حوته علبة الأرشيف، فيحتفظ به في كنف السرّيّة لمجرّد الذّكرى. ولربّما أمكنه، بعد ذلك، أن يقرّر ما إذا كان يريد أن يصبح عضوا حقيقيّا في نادي القصّة، وما إذا كان مستعدّا للشّروع فعلا ودون عقد في نـحت مسيرة كاتب.

*****

قبل أن يجمع أوراقه لحفظها في علبة الأرشيف، أعاد قراءة الفصل الأخير من جديد، فلم تعجبه نهاية القصّة. لا يهمّ. قد يراجعها لو سمحت الظّروف بالعودة إلى كلّ هذه المسودّات.
حين رفع رأسه، كانت عائدة حسين قد شرعت في غسل الخضر لإعداد العشاء. لكنّ حمادي رجب الذي أراحه اتخاذه قراره النهائيّ بترك الكتابة، شعر وكأنّه أخذ يسترجع حياته الزّوجيّه المطمئنّة بعد طول ترمّل. تخلّى عن أوراقه وهبّ إليها بكلّ ما أوتي من فرح وشهوة. مسكها من كتفيها بكلّ حنان ثمّ احتضنها من الخلف هامسا في أذنها أن أغلقي الحنفية، فأغلقت، فرفعها حملا على صدره جعلها تحرّك رجليها في الهواء بكلّ حبور وجرى بها إلى غرفة النّوم ليلقيها على سريرهما:
- الليلة نـحتفل كأجمل ما يكون الاحتفال. البسي بسرعة وتزيني، فأنا أدعوك إلى العشاء في مطعم على الشاطئ.
استوت عائدة حسين على راحتها في مقعدها على اليمين، وفتحت الدّرج بحركة آليّة تعوّدت عليها، للتثبّت من أنّ زوجها لم ينس أوراق السيّارة في البيت. فما راعها إلاّ أن تجد فيه خنجرا كبيرا ما رأت مثله من قبل. أخذته بين يديها مرتعدة وعرضته على حمادي رجب وهي تصيح :
- ما هذا يا حمّادي ؟
حين وقعت عينا حمّادي رجب على الخنجر بين يدي زوجته، عاد كلّ شيء إلى الاختلاط في ذهنه. فجأة تململت آخر حبّة صواب متبقّية في دماغه. ها هو يراها تتّخذ شكل حمامة بيضاء. والحمامة البيضاء تكسر طوقها وتخرج من جمجمته لتهمس في أذنه هذا الهديل:
- "الحبّ، أعزّك الله، أوّله هزل... الحبّ أعزّك الله أوّله..."
وطارت الحمامة محلّقة على مسافة قصيرة من حمادي رجب كما لتستدرجه نـحو ساحة الحيّ الرئيسية وهي لا تكفّ عن الهديل بصوت أعلى فأعلى مستنفرة سكّان العمران الأعلى بأكمله :
- "الحبّ، أعزّك الله، أوّله هزل... الحبّ، أعزّك الله أوّله..."
لم يعد بوسع حمّادي رجب إلاّ ترك زوجته في السيّارة للانطلاق عدوا وراء حمامته محاولا مسكها أو على الأقلّ إسكاتها. ولكنّ هديل الحمامة المنعتقة ونوح المعنّى في طلبها أيقظا كلّ الجيران، ففُتحت النّوافذ وخرج الجميع يتفرّجون عليه وهو يهرول قافزا في الهواء خلف حمامته مستجديا عودتها:
- أرجوك عودي ولا تخافي. فلن أذبحك أبدا... ليس هذا الخنجر لي والله... منير بوساطور هو من أخفاه في درج سيّارتي في غفلة منّي... لديه حسابات يريد أن يصفّيها مع عشيق زوجته...
أمّا الحمامة فما كان لها من جواب سوى هذا الهديل يتردّد صداه في الحيّ إلى اليوم :
- "الحبّ، أعزّك الله، أوّله هزل... الحبّ، أعزّك الله أوّله..."

الهكواتي – تونس


-------------
*العنوان في صيغته الكاملة كالتالي : "الحبّ، أعزّك الله، أوّله هزل وآخره جدّ" . فهكذا يبدأ ابن حزم كتابه "طوق الحمامة " – الحمّاص هو بائع الفواكه الجافّة – الكاتب محمود بلعيد المعروف بكونه حكّاء مدينة تونس العتيقة قرأ في النّادي بالفعل قصّة عدد من شخصياتها يحمل اسم حمّادي. ولقد أجاب أحدَ نقّاده مازحا " سأطوّرها ليبلغ عدد حمّادياتها الخمسين".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني