أنا العربة

سنتي على جناح السّرد – النّص 06 من 53 – 14 مارس 2008


أنا العربة

أنا العربة. في صمت أقف هنا ولا أعرف ما يخبّئ لي غدي. في أزمة كنت، والأزمة مازالت تتهدّدني رغم هذا الهدوء الحزين.
أنا العربة. ما كنت أنادَى، "يا كرّيطة"، حتّى أجيب، دون التّفوه بكلمة واحدة : حاضر. لم أكن أجفل أبدا أمام مهمّة. كنت أستجيب سريعا وأترك قهوتي على الطّارمة. قهوة فيلتر سوداء بخمسة طوابع من السّكّر، كان النّادل يحتفظ لي بها حتّى عودتي. نادل يمضي ونادل يجيء وأنا أعرف دائما من أين أسترجع بقية قهوتي. كنت أشربها دائما باردة وأقسّطها على امتداد يوم كامل مع عدد غير محدّد من سجائر بلا مبسم.

لا أعرف ما يخبّئ لي غدي. في أزمة كنت، والأزمة مازالت تتهدّدني رغم هذا الهدوء الحزين.
أنا العربة. ولست أيّ عربة. بل أنا العربة، بما هي كائن مفرد أو اسم علم معرّف. مازالت توجد عربات أخرى طبعا. ومازال يمكن اِكتراؤها، حين تتوفّر، دائما من نفس المقهى بوسط المدينة. ولكنّها مجرّد عربات. رفيقات مشقّة،ليس أكثر.
أمّا أنا، العربة، فكنت على الخلاف منها كلِّها، كائنا ثلاثيّ الأجزاء. ثلاثيّا، بالتأكيد، ولكن واحدا متفردا. كنت أشكّل كلاّ متضامنا غير منقسم. كان لي، كما يقال، رأس وجذع ومجموعة أطراف غاية في الصّلابة.
أكثر ما كان يميّز كلّي المتجانس هذا، هو ألاّ أحد كان يقدر ضمنه على تبيّن دور هذا الجزء أو ذاك منّي بالتّدقيق. فثلاثتنا كنّا رؤوسا، وجذوعا وأطرافا في نفس الوقت. وثلاثتنا كنّا قادة وجنودا في نفس الوقت. ولا جزء منّي كان يتجرّأ على أخذ مسافة من الآخرَيْن ولا على الاستئثار بدور لحرمان بقيتي منه.
سوء فهم خصوصيتي هذه كان قطعا منشأ الأزمة، ومنطلق الكارثة.
أنا العربة، كان لا يفهمني على الوجه الأكمل إلاّ عجوزي. كانت تستأثر بسرّ تعهّد انسجامي في شموليّته. كانت تقول لي "أنت يا كرّيطة كائن ثلاثيّ، فأنت تمتلك، حتّى من المِعَدِ، ثلاثا ". وكانت تذكّرني، حين تبلغ دهشتي من شدّتها حدّ الغضب، بأنّ "الثالثة هي تلك التي لا يملأها تماما غير الدَّسَم، والتي تأكل بالتّأكيد، وإن لم تطلب وجبة كلّ يوم".
أنا العربة، وعجوزي لم تكن تنبس بأيّ كلام أكثر من هذا. حتّى أنّها كانت نادرا ما تقوله. ومتى حدث، نادرا طبعا، أن أفهم ما كانت ترمز إليه*، كنّا نضحك منه معا ليلة كاملة.
أنا العربة، عجوزي كانت تستقبلني، كلّ مساء، بنفس اللامبالاة الحنونة. فتتكفّل، في صمت، بتفكيكي، وتتكفّل في صمت بتخفيفي من أدراني وكذا من محصول يومي. ثمّ تغذيني ليتسنّى لها أن تفرغني جيّدا من كلّ توتّري... متى أحسّت برغبة فيه أو حاجة إليه. فإذا أنا، عندها، كلٌّ هامد، سعيد حتّى مطلع الفجر.

ما كنت أنادَى، "يا كرّيطة"، حتّى أجيب، دون التّفوه بكلمة واحدة : حاضر.

أنا العربة، وعجوزي من كانت تعيد تركيبي في الصّباح، ومن كانت تعطيني زاد يومي. وعندها أنطلق من جديد، لأجد قهوتي الفيلتر، ذات الخمسة طوابع من السكّر، تنتظرني ساخنة، دائما في نفس المكان، على نفس الطّارمة.
أنا العربة، أزمتي خلخلت قناعاتي كلّها. رجّتني كما لم أرتجّ على مدى حياتي الطّويلة. مع أنني كنت أعرف جيّدا أن الدنيا سلسلة من مآس وأفراح تتعاقب بعدالة لا متناهية العصمة.
أنا العربة، كنت أعايش المآسي والكوارث كلّ يوم، تماما كما كنت أجاور الأفراح والمسرّات. كنت أنتقل في ساعتي، بلامبالاة مطمئنّة، من دار حزن إلى بيت فرح.
فأنا العربة، من كنت أسترجعُ كَراسٍ من مكتريها لمأتم وأنقلها مباشرة إلى دار فيها يقام عرس أو حفل نفاس. وأنا العربة، من كنت أنقل إلى صانع الفحم أشجارا مقلوعة، لأعود في التّوّ إلى نفس الحقل، محمّلا بمشاتل لتغرس محلّها.
هكذا كنت، أنا العربة، وهكذا الدّنيا، كما أعرفها جيّدا. وحتّى أكون واضحا، ليس ما فجّر أزمتي وأحلّني في الكارثة، تعطّب ثالث أجزائي الثلاثةِ نهائيّا.
أنا العربة، لا أنكر حزني وعجوزي ساعة أجبرنا على الانفصال نهائيّا عن قطعتي المعطّبة. وإنّي لمعترف بالفزع، تملكني وإيّاها طيلة أيّام قضيناها ننتظر حلول قطعة الغيار المناسبة. ولكن ما تحققت من ثقل المأساة إلاّ حين استقرّت في صلبي القطعة الجديدة. فألفيتها جسما دخيلا غازيا. واختلط فيّ كلّ شيء. ففوجئت بأنّني أتّخذ قرارا جنونيا بالتّخلّي عن عجوزي.
أنا العربة، لم أكن أدري إن كنت أحتاج حقّا إلى استرداد حرّيتي نهائيّا لبدء حياة جديدة بعيدا عن عجوزي التي لم تعد عجوزي، أو إن كانت حاجتي أكبر إلى التّصالح مع ذاتي وطبيعتي الثلاثية، وإلى رفض الانقياد نـحو اتجاه لا يلائم أكثر من ثلثي.
أنا العربة، كلّ ما أدريه اليوم أنّ قطعتي الجديدة، لئن أعطتني شبابا جديدا، فلقد أصابني منها ما يشبه الانفصام. لأوّل مرّة، شعرت بأنّني لم أعد الكلّ المتجانس الذي خلتني أكونه في السّرّاء والضّراء. فدخلت في حال من السّكر المطبق وعشوائية التّصرّف. لم أصح منها إلاّ حين رجّتني لدغة سوط مشحونةٌ بكلّ قوتي الجديدة فألهبت منّي فجأة ظهرا ما تعوّد على جلد الذّات أبدا.
أنا العربة، عشّشت بداخلي حالا من الفوضى رهيبة. وكان لا بدّ عليّ أن أستجمع ما بقي فيّ طوع كلّي، لأقف في وجه جزئي الجديد المستأثر منّي بالمقود. انتفض الجذع منّي والأطراف توقا إلى الخروج من هذا الانفصام والعودة من جديد إلى طبيعتي الثلاثية. لكنّني ألفيت كلاّ منّي يأمر، ولا أحد منّي يستجيب.
أنا العربة، دخلت في نفق مظلم لم أجد لي منه مخرجا. عدت، كما كنت، كائنا ثلاثيّا، ولكن بقادة ثلاثة وما من جندي واحد. كنت كائنا ذا رؤوس ثلاثة تتناطح يعوزها الجذع والأطراف. فوجدتني غريقا في الهلع. وألفيت فزعي يقودني، يا لدهشتي، إلى طريق مبشّر بالخلاص.
أنا العربة، في قمّة نشوتي بشبابي الجديد تخلّيت عن عجوزي، وفي ذروة خوفي من صراع رؤوسي عدت أدراجي إليها أستجديها لتستعيدني.
أنا العربة، وهذه عجوزي، بلا مبالاتها الحنونة تستجيب لرغبتي، وتخلّصني أخيرا من قطعتي الجديدة. وها هي ذي تستقرّ في صلبي بكلّ ثبات لتحلّ محلها. لماذا لم أتفطّن من البداية إلى أنّها كانت مكمّلي الأنسب؟
أنا العربة. وها أنا أستعيد، في لحظة، كامل هدوئي وأسير نـحو المقبرة قدما، لا أحفل بثقل قطعة الغيار الجديدة المحمّلة الآن على كاهلي. فهي مهما كانت نفيسة، ليست أكثر من مجرّد حمل، تماما كأيّ بضاعة.
أنا العربة، وهذه الجبّانة تستقبلني ببياض قبورها. أخيرا يعترف الكون لي بالحقّ في الحداد.
أنا العربة، أقف بكلّ خشوع على قبر قطعتي الأصليّة. وأشعر من جديد بما يشبه الاكتمال، رغم حزني على ثلثي المدفون تحت الأرض. في صمت أقف هنا ولا أعرف ما يخبّئ لي غدي. في أزمة كنت، والأزمة مازالت تتهدّدني رغم هذا الهدوء الحزين.
هل تجرؤ عجوزي على تحويلي إلى عربة كاملة الأنوثة ؟ أم هل تعود لي فحولتي مع شباب جديد توفذره قطعة الغيار هذه إذ يجرّدها خشوعي من صلفها وتهوّرها، ويذيبها في تركيبتي الثلاثيّة ؟ أم هل أن قدري ألاّ أخرج من هذه المقبرة إلاّ عودا إلى الـ... كارثة ؟


الهكواتي – رادس
-------
* العجلة إذ تحتاج التّشحيم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني