نوّار اللوز...

سنتي على جناح السّرد – النّص 5 من 53 – 07 مارس 2008
نوّار اللوز...

يجمع الرّجل في خصاله بين معنيي اسمه ولقبه: أمين من الأمانة وساكت من السّكوت. لذلك صنع له برهان الشّامخ ملفّا مهنيّا ثريّا بقدرة قادر وانتدبه للعمل معه. ثمّ اصطفاه من دون موظَّفي وصُحُفيي دار النّزهة حتى يكون من صحابته المقرَّبين المؤتَمَنين على أسراره. بل وصل به الأمر إلى جعله شريك أسفاره إلى أصقاع العالم لجمع المعلومات والإعلانات الإشهارية لملحق "النّزهة" السّياحي.
بل يقال إنّه من يساعده في ترتيب مواعيد أنسه وقضاء شؤونه العائليّة بل وحتى في تحرير مقالاته. ولكن هذا ما لم يثبت بإمضاء على نصوص منشورة، إلاّ في مناسبة وحيدة. كان ذلك في الملحق الخاصّ بعيد إحدى البلاد التي سافرا إليها معا، والذي نصّ في غلافه على أنّه "من تصوّر وإنجاز برهان الشّامخ بمساعدة أمين السّاكت".

ش رايك في نوّار اللوز سي برهان ؟

رفض الشّاف الصّحبي، صاحبُ الدّار، إمضاء لائحة تحويل الأجور لذلك الشهر. وطرح على سي برهان سؤالا عن طبيعة هذه المساعدة. فأكّد له أنّ سفر أمين السّاكت كان مجرّد "برستيج" يخدم صورة الدّار مع أنه مدفوع الأجر من البلد المضيِّف، وطمأنه على أنّ مهمّته لم تتجاوز ما دأب عليه من حديث مع المصالح الإدارية هناك عن المسائل المالية والتّقنية المتعلّقة بالإعلانات والمقالات خفيّة الصّبغة الإشهاريّة. والتزم بأن التّنصيص على مثل هذه المهمّة على لائحة الأجور لن يتكرر أبدا. ومن ذلك العدد لم يظهر لأمين السّاكت إمضاء واحد لا بالملحق ولا حتّى بأيّ من أركان المجلّة.

*****
في ذلك الصّباح، وصل برهان الشّامخ إلى مكتبه في إدارة التحرير يستشيط غيضا. فلقد علم بأنّ الشّاف الصّحبي استقبل البارحة نبيل الشوك دون استشارته، وقد يكون استمع إليه على انفراد، بل وسمح له بشرب كأس في حضرته.
كان يمكن لبرهان الشّامخ أن يقابل هذا الاستفزاز الجديد، بل هذا العدوان الصّريح من الشّاف الصحبي، بادّعاء المرض والبقاء على الرّبوة متفرّجا على الأحداث، مستعدّا لردّ الفعل بكلّ رويّة وبقوة تفاجئ الجميع. ولكنّ تجاوزه السّتين من عمره لم يغيّر شيئا من عناده وحدّة طبعه وعشقه المعارك التي يصرّ على مجابهتها، بل على استباقها.
ذلك أنه ليس على باطل، سي برهان. إنّه صاحب حقّ. بل إن على الشاف الصحبي أن يخجل مما فعله. شهران كاملان مرّا دون أن تصله على هاتفه الجوال دعوات العادة إلى مجالسه الاحتفالية الليلية المضيقة. هو في النهاية حرّ في اختيار من يدعوه إلى مجالسه الخاصّة هذه. أمّا أن يصل به الأمر إلى حدّ استقبال نبيل الشّوك، من وراء ظهره، فذلك مسّ من هيبة برهان الشامخ الشّخصية في هذه الدّار التي بناها بتضحياته الخاصّة وعرق جبينه.
فلئن كانت دار النّزهة تأسّست، كما يقول شانئوه، قبل عودته من ديار الغربة، ولئن كان لها تاريخ مازال بعضهم يدافع عنه بكلّ صلف إلى الآن، فإنّه هو، برهان الشامخ، من أعاد تصوّر المشروع انطلاقا من الصّفر. فهو من أثرى محتوى مجلتها الرئيسية، ومن نوّع منشوراتها، ومن أنشأ لها مطبعة عصرية، ومن ابتكر لها من الملحقات ما درّ عليها الربح الوفير، دون أن يكون الشّاف الصّحبي، إذّاك، قادرا حتى على مجرّد فهم ما يصلح له ملحق.
وقد أخلص برهان الشّامخ لدار النّزهة كما يخلص لذاته أو لمشروعه الشّخصيّ. حتى أنّه تصرّف فيها من يوم دخلها تصرّفه في متاع شخصيّ. فقد نذر نفسه منذ أكثر من عشرين سنة ليصنع "لداره" المجد الذي تنعم به اليوم في السّاحة الإعلامية الوطنية، بل وحتى في المحافل الجمعياتية الدّولية المختصّة، حيث تُعقد وتحلّ التّحالفات المدرّة لصفقات الإشهار السّياحي.
أمّا "ذاك الزّفت نبيل الشّوك"، فليس أكثر من صحافي فاشل ومتطاول، ومتسلّق وحسود. وهو العدوّ الأوحد لإدارة التحرير، بل لكلّ من يحظى بثقة مدير التحرير. وقرار طرده نهائي لا رجعة فيه. فهو ممنوع من الكتابة، ليس في مجلة النّزهة وحدِها، بل في أيّ من منشورات الدّار. وسيعرف برهان الشّامخ كيف يقطع عيشه من الساحة الإعلامية بأكملها. وسيجبره على ترك مهنة الكتابة في اختصاص السياحة وحتّى في غيره .

*****
- "آش رايك في نوّار اللوز سي برهان ؟ ان شاء الله صباهك مبروك مزيان."
استقبلته كارلا، كاتبته الأولى، بهذه العبارات مع أجمل ابتساماتها. شعرت فجأة بدخوله مكتبَه وهي ما تزال تعالج مزهريّة من الخزف الصّيني جلبها من إحدى سفراته إلى بيجين. وها قد أضافت إلى زهورها هذا لصّباح غصن لوز مزهر قطفته للتّوّ من حديقة بيتها. ولكنّ برهان الشّامخ ردّ عليها صائحا بكلام غريب كأنّه كان يكبِته في نفسه حتّى يصل إليها:
- " فليكن بالأحرى صباح زفت وقطران... لن أعيد نبيل الشّوك ولو طَلب مني ذلك الشّاف الصّحبي نفسه. فالقرار هنا قراري أنا. وهذا كان شرطي لقبول تسلّم مقاليد هذه الإدارة منذ أكثر من عشرين سنة. فشؤون الصّحافة تحريرا وتسييرا ليست شؤون خردة* حتّى أسمح بأن يحشر فيها خرداجي* أنفه، ولو كان صاحب تسعين في المائة من رأسمال الدّار."
- "اسم الله عليك سي برهان... آشكون* غشّشك* ع الصّباه ؟ بيان سور* الكرار ديمة كرارك أنت"
تعرف كارلا، بمثل هذا الكلام، وبفضل لكنتها المتونسة ودلعها الايطالي الأصيل، كيف تردّ على انفعالاته فتمتصّها بسرعة. ولكن عرفها لم يرتم هذه المرّة في حضنها ولم يعتصرها كما تعوّد أن يفعل كلّما أحسّ بالحاجة إلى أن يهدّئ من روعه. بل، على العكس، ألقى إليها بمحفظته ومعطفه كما اتّفق ورفع يده ليهبط على المزهريّة بعكّازه الملوكي فينثر كسورها شظايا. ثمّ جاء ليدوس بكلّ عنف تحت حذائه غصن اللوز المزهر تحديدا.
فهمت كارلا أنّ شيئا خطيرا على وشك الحدوث. فطأطأت رأسها والتقطت المعطف والمحفظة مركّزة نظرها على العكّاز الملوكي. فهذا العكّاز صار بمثابة التّميمة أو العلامة الميزة لعرفها. فهو يحمله حيثما ذهب دون حاجة إلى التوكّؤ عليه.
رتّبت كارلا كلّ قطعة في موضعها العادي. وخرجت على أطراف أصابعها.
حينها دخل أمين السّاكت الذي كان ينتظر أمام المكتب بكلّ انضباط وقد هرع إلى عرفه كالعادة من دون أن يدعى. فأعاد برهان الشامخ على سمعه نفس الكلام ناعتا صاحب الدّار بالقعر* وبالدّخيل على الصّنعة :
- نعم قعر ... ونعم أقصد أنّ تجارة الخردة لا علاقة لها بالصّحافة ... ونعم أقصد الشّاف الصّحبي وليسمع السّامعون جميعا".

*****
سكت السّاكت كالعادة. وحتّى يمنع عاملة التّنظيف من رؤية عرفها على تلك الحال من الغضب، تطوّع بنفسه لجمع كسور المزهرية وما ديس من زهورها وألقاه في سلة المهملات. ولكنّه وجد كلّ الصعوبة في منع تكديس علب الأرشيف الكرتونية في وسط المكتب.
وها هي الخزائن الحائطية التي تغطّي أغلب جدران المكتب تنفتح لتلفظ، بعنف وبكلّ تسرّع، كلّ ما حوته من علب. وها هو أمين الساكت يجبر على مساعدة عرفه على رصفها كما استطاع على المكتب وفوق الزّرابي وعلى الأرائك. وها هو جرس الهاتف لا يكفّ عن الرّنين ولا يجد من برهان الشامخ دائما إلاّ الحركة ذاتها : رفع السمّاعة وتعليقها آليّا دون استماع ولا ردّ. ما دفع أمين الساكت إلى طلب كارلا :
- سي برهان ليس موجودا لأيّ كان. ولا أنا أيضا...
وحدها الملفات موجودة. ملفّات، ملفّات، ملفّات... وثائق يمكن اقتطاع فقرات مطولة من محتوياتها بالقصّ واللصق للحديث عن أيّ من بلاد العالم دون أن يتفطّن أحد إلى أنّها صيغت في الأصل للحديث عن بلاد أخرى.
ملفات، ملفات، ملفات... نسخ من مشاريع لتغيير إخراج المجلّة قدّمها متربّصون من سنوات ويمكن اليوم استغلالها دون أن يتفطّن مبتكروها.
ملفات، ملفات، ملفات... مطبوعات وأقراص مضغوطة تحوي تخطيطا مفصّلا لمشروع موقع دار النّزهة على الشّبكة العنكبوتية، كان برهان الشّامخ يستعدّ لنشره على الإنترنت ثم تخلّى عنه فجأة لأسباب مجهولة.
ملفات، ملفات، ملفات... علب لا يعرف محتواها حتّى أمين السّاكت نفسه... ووثائق أخرى أخذ برهان الشامخ يرتّبها في الحال ويحشرها بلهفة في علب أرشيف فارغة. وقد تعرّف أمين بالخصوص على ما يتعلّق منها بتخطيط شبكات الماء والكهرباء والتدفئة المركزية في البناية التي تضمّ الآن مجلّة وكامل مصالح التحرير بدار النّزهة. مقرّ ما كان ليرى النور لولا مبادرته الشخصية وإشرافه بنفسه على تصوّر مثاله الهندسي وعلى تنفيذ بنائه.
- "ماذا كنت تتصوّرني أفعل ؟ أتركها للبوزقلّيف* ؟ هذه الدّار داري. أنا، برهان الشامخ، من صنعتُها بجهدي وبأفكاري. واليوم، مادام لم يبق لي فيها أيّ احترام، أنا من أنسحب منها لأحرمها من عرقي ومن فكري معا... وصدّقني يا أمين. ستقع دار النّزهة لتوها حجرا على حجر.... آه ؟ يستقبل عدوّي نبيل الشّوك ؟ وماذا .؟ .. يسمح له بشرب كأس في حضرته..."
*****

هاهي العلب لا تتوقّف عن التراكم. حتّى أنّ بعضها صار يشكّل على مكتب برهان الشامخ صومعتين على وشك الانهيار.

عبثا كان أمين السّاكت يحاول إقناع مديره بأنّه أرقى من كلّ هذا. ولكن هاهي العلب لا تتوقّف عن التراكم. حتّى أنّ بعضها صار يشكّل على مكتب برهان الشامخ صومعتين على وشك الانهيار. وهذا الأخير يواصل حثّ محميّه على جمع المزيد من الملفّات الحسّاسة مصرّا على إقحامه في ترتيب أمر نقلها إلى بيته.
كان السّاكت يستجيب لطلب الشّامخ ولكنّه كان، من حين لآخر، يعيد عليه رجاءه بأن يفكّر قبل الإقدام على تصرّف لا يليق بحجمه ولا بتاريخه. ولكن جواب برهان الشامخ كان جاهزا على طرف لسانه دائما:
- " هذه المرّة قرّرت قلت لك. سأستقيل ولا تراجع. وكلّ خوفي عليك أنت من أن تظلم هنا بعدي يا أمين. ولكن لا تحزن سأدعوك قريبا جدّا لمهامّ أكبر. فاذهب واكتب لي استقالتي. أريدها استقالة جافّة الأسلوب، حاسمة. وأريدها على مكتبي في ظرف خمسة دقائق".
تلكّأ أمين السّاكت قليلا من شدّة ما كان محرجا. كان يريد أن يقول لعرفه كلاما كثيرا. ولكن برهان الشّامخ لم يترك له مجالا لنطق كلمة واحدة ونهره كما تعوّد أن ينهره دائما:
- "قلت لك اقلب منظرك في الحال."
فخرج.

*****

جلس برهان الشامخ يتأمّل هذه الفوضى التي غمرت مكتبه الفسيح ويستمع إلى اصطخاب هذه الأصوات المتلاطمة كالأمواج في أعماق نفسه. لماذا لا يكون هذا الحمار أمين السّاكت على حقّ ؟ لا شكّ في أنّه، في هذه المعركة بالذّات وبوصفه مديرا للتحرير منذ أكثر من عشرين سنة، صاحب حقّ. ولكنه أيضا صاحب مكانة وتاريخ ينبغي أن يكون لهما حقّ عليه.
شعر بأنه كائن مفصوم إلى شخصيتين متصارعتين، إحداهما تؤنّبه لأنّه لم يدّع المرض منذ الصّباح، بينما الأخرى تحرّضه على مواصلة المعركة مؤكّدة أن عملية ليّ الذّراع التي يبادر بها الآن ستنتهي بالإنتصار على الشاف الصحبي كما انتهت قبلها عشرات أمثالها. فهذا القعر* يجمع، رغم ثروته، بين الجهل والغباء وضعف الشّخصية. وإذا أضفنا إلى كلّ هذا خوفه الشديد من شبكة العلاقات الخارجية التي لا يكف برهان الشامخ عن التباهي بها، فإنّ كل صراع معه مضمون النتيجة مسبقا.
انفتح باب مكتبه من جديد فدخلت ربيعة، كاتبته الثانية، لتعلمه، دون انتباه إلى الفوضى السائدة، بأنّ شخصا يسمّى منير علوان جاء لمقابلته. قالت له إنّه يرفض الإفصاح عن موضوع الزّيارة ولا يريد العودة في يوم آخر.
هكذا قطعت عليه ربيعة تأمّلاته. فازداد غضبه وانتصر بداخله داعي ليّ الذّراع وأجابها دون تفكير وبلهجة حادّة.
- "دعي أمّه* ينتظر ونادي لي كارلا".
دخلت كارلا مطأطئة رأسها. أمرها بأن تطلب من النّاصر، رئيس ورشة النّقل، أن يخصّص شاحنة خفيفة لنقل علب الكرتون هذه كلّها إلى بيته في الحال. اكتشفت المسكينة المشهد فجأة، فكادت أن تعلّق عليه بما كان سيجلب لها نقمة عرفها. ولكنّها تمالكت نفسها وقالت "هاذر سي برهان، هاذر". وسحبت الباب خلفها وهي ترتعش.
بعد أقل من دقيقة عادت لتعلمه بأنّ النّاصر لا يمكنه إخراج سيارة إلاّ بإذن مكتوب يحمل إمضاءين منهما إمضاء رئيسه المباشر. لم يكن يريد التعبير لها عن أيّ احتقار وإنّما صدمه الجواب. فهم جيدا أنّها كانت تهمّ بقول شيء مهمّ، ولكنه كان يشعر بالضجيج يشتدّ مع اشتداد الخلاف بين الشخصيّتين المتصارعتين بداخله. ودون أن ينبس بحرف، قطع عليها كلامها بإشارة جافة تدعوها إلى الخروج. فما كان باستطاعتها إلاّ الامتثال لإشارته.
حاول برهان الشامخ أن يأخذ مهلة يفكّر فيها قليلا. ولكن سيطر عليه التّوتّر وضغط على دماغه فمدّ يده آليّا ليطلب أمين السّاكت على هاتفه الدّاخلي وأخذ يصيح فيه بصوته المتشنّج:
- "آلو ... سأجعله يندم على فعلته... أحضر لي حالاّ وعلى حسابي الخاصّ شاحنة نقل خفيف. ودع عنك الاستقالة، سأهتمّ بها بنفسي."
ثأثأ صوت بارد :"حاضر سي برهان". ثمّ ساد الصّمت من جديد.

*****

حين رفع برهان الشامخ رأسه، ألفى كارلا تفتح الباب في صمت وتفسح المجال لرجل فارع الطّول حتى يدخل. فوقف كما لينهرهما معا. ولكنّ كارلا سرعان ما اختفت ساحبة الباب خلفها، فيما بادر القادم بالتعريف بنفسه :
- الأستاذ منير علوان...
- فلتكن أيّا من كان. هل تعلم أنّك تقتحم عليّ مكتبي الشخصي ؟

ظلّ الرّجل واقفا في مكانه يشرح له أمره، من بعيد، بكلّ هدوء. قال إنّه دخل بناء على أمر تلقته الكاتبة من الشاف الصحبي نفسه، بعد أن طال انتظاره ورفضت الكاتبتان حتّى تمرير المكالمات الهاتفية. وقال إنّه لئن كان يشتغل عدلا منفّذا، فإنّ لسي برهان أن يعتبره مجرد مبعوث من صديقه سي عادل محامي الشاف الصحبي.

غامت الأفكار بذهن برهان الشامخ. وشعر بالحاجة إلى الجلوس للاستراحة من عناء فرز الوثائق وتكديس علب الأرشيف، ولمحاولة مسك أعصابه حفاظا على هيبته وتاريخه الشخصيّ.

سحب هاتفه الجوّال من جيب معطفه وترك جسمه يهوي على أقرب أريكة. وجد الهاتف مطفأ وتذكّر أنه قد أطفأه بنفسه فعلا في حركة غضب منذ الصّباح.

لو كان يعلم أن سي عادل سيطلبه لما أطفأه. بل لو دخلت هذه المجنونة كارلا لتعلمه بهويّة من يطلبه على هاتف المكتب لكان مستعدّا للردّ عليه دون تردّد.

ليس مهمّا كلّ هذا، الآن. ما يزعجه في هذه اللحظة إلى حدّ تشكيكه في صحّة مداركه، هو أنّه لا يتذكّر أنّه استمع إلى صوت الشّاف الصحبي في الهاتف منذ أكثر من أسبوع. ناهيك عن كونه تحدّث إليه هذا الصّباح. بل هو لا يتذكّر حتّى كيف علم بالمقابلة التي جمعت البارحة غريمه نبيل الشوك بصاحب الدّار.

طال صمته ولم ينتبه إلى ضرورة دعوة زائره إلى الجلوس. كان غارقا في التفكير. عبثا حاول استعراض أحداث صباحه. فكلّ ما بقي في ذاكرته أنّه أطفأ هاتفه الجوّال وحلق لحيته وقرّر المواجهة ردّا على معلومة يجهل الآن مصدرها.

عجبا للذاكرة. هل يمكن أن تمحى منها مساحة زمنية كاملة وكأنّها لم توجد ؟

كان الحرج باديا على وجه الأستاذ منير علوان وهو يقطع الصمت بعد أن طال وقوفه :

- رجاء يا سي برهان، حاول أن تتذكّر. فكلّ مهمّتي هنا كعدل منفذ تتمثل في تسجيل علمك بما قرره الشاف الصحبي وأخبرك به هذا الصباح بالهاتف قبل أن تقطع في وجهه المكالمة.

تحامل برهان الشامخ على نفسه حتّى يقف. كان في ذهنه أن يدعو مخاطبه صادقا إلى الجلوس. ولكنّه حين فهم منه أنّ صاحب دار النّزهة عيّن مديرا جديدا للتحرير، انهار في كرسيّه من جديد :

- نبيل الشّوك ؟

صدر عنه السّؤال رغم إرادته، كاشفا عن مرارة تثير الشفقة، ومقرّا ضمنيّا بهزيمته أمام صحفيّ بسيط كان يمكن أن يتخلّص منه منذ البداية. فقد كان يمكنه اعتبار مقالته الأولى دون المستوى الأدنى المطلوب للنّشر في مجلّة النزهة. ولكن ...لا يهمّ الآن ...

هاهو يشعر فجأة بأنّه قد منح نفسا جديدا، أو قوّة خارقة تمكنه من الاستنجاد بمكنوزه من التّجلّد فاتّخذ وضع الواثق المتكبّر ليستطرد قائلا :
- فليكن. سيندم الشاف الصحبي كثيرا. كنت واثقا من أنّ هذه الدّار ستنهار بمثل السّرعة التي أنشأتها بها. وها أنت تراني قد أعددت كلّ أدباشي للانصراف.

وضع العدل المنفّذ في صوته شحنة عاطفية مواسيه. وأخذ يتقدّم، خطوة خطوة، من مكتب برهان الشامخ. مكتب تفصله ثلاث قاعات جلوس عن الباب الرئيسيّ. كان عليه أن يستنجد بكل لباقته ليعلمه بأنه كلّف كذلك بتحذيره من إخراج أيّ وثيقة.

ولكن المدير المخلوع استرجع كلّ صلفه وهبّ واقفا حاثّا نـحوه خطواته القصيرة الشبيهة بدبيب نملة مستعجلة، وصاح في وجهه:
- "ماذا يريد منّي سي نبيل الشّوك ؟ يريد أن يحاسبني ؟ أن يدّعي عليّ بسوء التّصرّف ؟ هذا الرّجل عدوّي ... إنّه عدوّي ... اكتشفت أنه بدأ يحفر لي منذ كتب في المجلّة أوّل مقالة... وهو إلى ذلك رجل كذّاب متطاول لا يملك وثيقة واحدة تدينني بشيء مما يدّعي...

يعرف برهان الشّامخ جيّدا أنّه قصير. ولكنّه لم يتصوّر أنّه، متى وصل أمام العدل المنفّذ، سيعتريه هذا الشعور بأنّه أصبح أشبه بالقزم المتشنّج في حضرة عملاق ذي هدوء أولمبيّ.

أطرق من جديد مفكّرا فوقع بصره على سلة المهملات وقد تركها أمين السّاكت حيث كسرت المزهرية. ورأى عرفا رقيقا من غصن اللوز يتدلّى من إحدى ثقبها، لقد بقيت فيه زهرة يانعة سليمة. كان لبتلاتها بياض وقح يتدفّق من حمرة ورديّة كأنّها دماء الشّباب تتّقد حياة. كانت تطلّ عليه كأنّها تتحدّاه، لتقول له إنّه لا يستطيع رفس كلّ شيء، وتذكّره بأن لا وجود لقوّة في الكون تحول دون انطفاء الشّتاء وتفتّق أزهار الرّبيع.

لذلك إنما استسلم للأستاذ منير علوان يجلسه برفق على إحدى الأرائك وقرّر السكوت ليسمع منه كلّ ما لديه :

- ما بلغ إلى علمي يا سي برهان هو أنّ سي نبيل الشّوك قال فيك البارحة كلاما مادحا لا يقوله بشر في عدوّ أبدا.
صحيح أنّه اعتبر ثقتك المطلقة في أمين السّاكت خطأ مهنيا فادحا، ولكنّه حين عرض عليه الشّاف الصّحبي تعويضك في منصِب مدير التّحرير مع فصل أمين الساكت، رفض العرض.
ذلك أنّه يستعدّ منذ أيّام للسفر، استجابة لعرض أهمّ جدّا جاءه من إحدى بلدان الخليج.

أمّا عن إرسالي إليك في هذه المهمّة، فقد تقرّر حين تعذّر على سي عادل الاتصال بك، وحين عجز أيّ من موظّفي الدّار على التحدّث إليك. وهذا ردّ فعل عاديّ من صاحب مؤسّسة يعلّق عليه مرؤوسه سمّاعة الهاتف، ثمّ يتحدّاه فيأتي إلى مؤسسته رغما عنه، في حين أنّه قد فصل منها.

*****
لا وجود لقوّة في الكون تحول دون انطفاء الشّتاء وتفتّق أزهار الرّبيع.

في نهاية المقابلة، سلّم برهان الشّامخ العدل المنفّذ مجموعته الخاصة من مفاتيح كلّ أبواب إدارة التحرير. كان حريصا على أن لا ينبس بحرف. لم ينتظر حتّى يطلب منه العدل المنفّذ إرجاع السّيّارة التي اشتراها لنفسه بصفة سيارة وظيفية. قبل أن يرتدي معطفه مدّ يده إلى جيبه وسلّمه مفاتيحها بكلّ كبرياء. ثمّ توجّه نـحو باب المكتب تاركا هناك حتّى محفظته وعكّازه الملوكي، واعدا نفسه بالخروج دون النّطق بكلمة أو إلقاء نظرة وداع أخيرة على فضائه الشّخصيّ الفسيح.

لقد قضّى برهان الشّامخ أشهرا طويلة في تأثيث المكتب بأفخر قاعات الجلوس الجلدية والمخملية وأثمن المفروشات القيروانيّة وفي تزيين نوافذه العالية بأرفع أنواع السّتائر وتحلية ما تبقّى ظاهرا من جدرانه بأثمن اللوحات التّشكيلية الممضاة من فنانين ذاع صيتهم في الوطن وخارجه، حتّى غدا المكتب أفخم من مكتب وزير.

كان صادق الإرادة في أن يظهر كل ما لديه من لامبالاة، ولكنّه في آخر لحظة، عندما همّ بفتح الباب، شعر بأنّه يشبه قلعة بصدد الانهيار. ولم يتمالك نفسه من الالتفات لطرح السّؤال : "وهل تعرف من يكون معوّضي ؟"
ابتسم العدل المنفّذ عن أسنان صفراء وقال: "سي أمين السّاكت".

الهكواتي – تونس/ الحلفاوين


-------
*آشكون؟ : من ؟ - غشّشك : أغضبك – بيان سور : بالطبع (فرنسية) – خردة : قطع السيارات القديمة وكلّ ما لم يعد يصلح من مواد حديدية والخرداجي هو المشتغل بالخردة - القعر : الجلف – بوزقلّيف : الرعاع – دعي أمّه : دعيه (في احتقار لأمه) – الفاطق الناطق : صاحب الحلّ والعقد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني