من المعارضة إلى "المقابلة" تفاعل من نوع جديد



مبعثرة مبعثرة
تفاعل مع قصيدة جيدة لكوثر التابعي
لهذا المصطلح الجديد الذي أعلنه هنا لأول مرّة، خلفية تحسن البداية بكشفها وقصّة بحين سردها.
فهاجس التّفاعل الإنشائي مع ذوي القربى الأدبيّة والفنّيّة عموما، سيظلّ إحدى أبرز سمات مسيرتي الإنشائية.  وهذا التّفاعل يكتسي أثواب شتّى. منها التّفاعل مع نصّ الآخر بالمعارضة، كما في "الدّيوان الفريد" الذي سيصدر قريبا، وكما كان مع "كلمات" منور صمادح أو مع "خمسون" سوف عبيد. وذلك تفاعل بطريقة موروثة من العادات والتقاليد الأدبية العربية. ومنها التّفاعل بما سمّيته "المقابلة".
والتّفاعل "بالمقابلة" هو أن تأخذ نصّا وتقابله بصياغة في نفس اللّغة، ولكن بأسلوبك الخاصّ وانطلاقا من أحاسيسك الذّاتية، كما لو كنت أنت صاحب فكرة إنشائه. ويمكن أن تكون الصّياغة الجديدة بلغة ثانية دون أن تكون العملية ترجمة تقليديّة.
هذه الطّريقة في التّفاعل اختبرتها نطفة، منذ أكثر من عقد، ضمن تجربة "سنتي في الهيك"، حيث كان على كلّ المتحاورين على صفحة "نافذتي المفتوحة" التي ستنبثق منها فيما بعد "ورشة الهكواتي"، أن يتفاعلوا مع الهيكة التي أرسلها إليهم كلّ يوم بإعادة صياغتها على نفس الإيقاع ولكن بما توحي إليهم به قراءتها النّابعة من تجاربهم الذّاتية وأحاسيسهم الخاصّة وظروفهم المتمايزة.
التفاعل "بالمقابلة" هو إذًا عبارة عن ترجمة ضمن نفس المنظومة اللّغوية (الفرنسية مثلا في تجربة الهيك)، ولكن من فرنسيّة الآخر إلى فرنسيّة الأنا، أي إلى اللّغة الذّاتيّة التي لا تشبه لغة أحد.
فنحن، مثلا، نكتب جميعا بالعربية. ولكنّنا لا نصوغ نفس المعنى بنفس الأسلوب ولا بنفس الكلمات ولا حتى بنفس الكمّ من الجُمل. كما أنّنا حين نقرأ نصّا بأيّ لغة فإنّنا نتقبّله كما نفهمه نحن، وما فَهْمُنا بمطابق بالضّرورة لما أراد قوله صاحب النّصّ.
هنالك إذًا النّصّ المرسَل والنّصّ المتقبَّل. وهذا الأخير هو الذي أسمّيه النّصّ المُقَابِلُ. وما دام هذا النّصّ المُقَابِل قد صيغ أساسا بلغة الذّات القارئة كتابة، فسيّان أن تنتمي هذه الصّياغة الجديدة إلى نفس المنظومة اللّغويّة للنّصّ المُقَابَلِ، أي المتفاعل معه (العربية مثلا) أو إلى منظومة لغويّة غيرها.
ومن خصائص النّصّ المقابِل أنّه نصّ موجود بالقوّة، ضمنيّ مكبوت دائما. ينتجه العقل القارئ ولا يفكّر أحد في كتابته أبدا، ناهيك عن نشره. ولكن لماذا ؟ وما المانع من إخراجه من دائرة الغموض إلى دائرة الوضوح ومن دائرة الكتمان إلى دائرة البيان؟
ربما كان وراء هذا الكبت ما نضفيه من قداسة على النّصّ الأصليّ وعلى شهادة ملكيّته لمن صاغه أوّل مرّة، مع أنّ المعاني، كما علّمنا الجاحظ، مطروحة على قارعة الطّريق.
من هذه القداسة جاءت قضيّة حقوق التّأليف وألقيت "تهم" التّناصّ والسّرقة والخيانة الأدبيّة التي أضحت نعتا ملتصقا بالتّرجمة ضمنيّا.
حسّاس جدّا هو التّفاعل بالمقابلة إذًا، بل خطير بالمعنيين. إنّه يتطلّب قدرا كبيرا من الحبّ للنّصّ المُقَابَلِ مهما كانت قيمته، ومن التّقدير لصاحبه مهما كان مشهورا أو مغمورا. كما يتطلّب قدرا كبيرا من الشّجاعة الأدبيّة، وجهها تواضع صادق يجهر بالاعتراف للنّصّ المُقَابَلِ أو الأصليّ بأنّه كان المنطلق ومصدر الإلهام، وقفاها ثقة بالنّفس" بعيدة عن كل مركّب نقص أو غرور،  تطرح النّصّ المُقَابِلَ أو "المقابلة، كائنا نصّيّا جديدا يشكّل، في مبناه و/أو معناه، إضافة أدبيّة، يمكن أن تكون وازنة عميقة ويمكن أن تكون خفيفة سطحيّة. ولكن، دون هذه الإضافة، مهما كانت بساطتها، لا يمكن لعمليّة التّفاعل إلاّ أن تكون باطلة من أساسها.

تجربة التّفاعل بالمقابلة عدت مؤخّرا لخوضها مع نصّ أوّل للصّديقة كوثر التّابعي عنونته : "أسئلة سبعة للطفلة فيّ" (انظر الرّابط أسفله).  وقد كان ترجمة من اللغة الألمانيّة، ولكنها ترجمة خاصة جدّا، تحتفي جهرا بخيانة الأصل، إذ سمحتُ فيها لنفسي بأن أعبّر بلغتي الخاصّة وأحاسيسي الذّاتية عن المعاني التي صاغتها صديقتي في قصيدتها، لا كما قصَدَتْها هي، ولكن كما فهِمتُها أنا من اللغة الألمانية التي لا أكاد أفكّ شفرة كلمة من كلماتها دون عودة إلى القواميس.
فالمهمّ عندي كان النّصَّ المُقَابِلَ الذي أكتبه تشكيلا جديدا من معاني النّصّ المُقَابَلِ، بل ومن كلماته التي أعيد ترصيفها. وقد فهمت من ردّة فعل الشّاعرة الصّديقة كوثر التّابعي، التي عبّرت عن "سرورها بهذه المفاجأة"، أنّ التّجربة إن لم تكن قد راقتها إلى درجة تجعلها تتحمّس في الحين فتتصدّى لها بالإجابة بمثلها، فإنّها لم تزعجها من باب غيرتها الطّبيعيّة على نصّها الأصليّ. وهذا يتطلب في حد ذاته قدرا كبيرا من السّموّ والتّفهّم والانفتاح على ردّ الفعل الإنشائي من لدن القارئ المتقبّل وعلى إضافاتة التي تنزاح بخطابها عن مقاصده الأصليّة.
بعد تلك التجربة التي نشرت نتاجها على هذه المدوّنة https://alhakawaty.blogspot.com/2017/06/blog-post.html، قطعت خطوة جديدة على نفس الطّريق، ودائما مع نصّ للصديقة كوثر التابعي. ولكن الخطوة كانت أكثر جرأة هذه المرّة. ومع ذلك شكّلت لشاعرتنا مفاجأة جديدة، عبّرت مرّة أخرى عن سرورها بها.
فقد تصدّيت هذه المرّة إلى التّفاعل بالمقابلة مع قصيدتها الجديدة التي عنوانها "مبعثرة"، مترجما إياها من اللغة العربية إلى ... اللغة العربيّة. أي أنّ التفاعل أنتج نصّا جديدا بنفس لغة النّصّ الأصلي ونفس معانيه ونفس كلماته عموما، ولكن بأحاسيس غير أحاسيس صاحبته وأسلوب غير أسلوبها ومقاربة إنشائية مختلفة عن مقاربتها.
هذه التّرجمة إلى نفس اللغة، أتبعتها بترجمة إلى لغة ثانية هي اللغة الفرنسية التي حاوَلَتْ أن تلتزم الوفاء بقدر ما يمكن للترجمة أن تكون وفيّة.
ويطيب لي أعرض عليكم اليوم، في هذا المنشور، نصّ "المقابلة" وقد جعلت عنوانه "مبعثرة مبعثرة" لتمييزه عن النّصّ المُقَابَلِ "مبعثرة" الذي سأورده بعده مباشرة، ثمّ يليهما نصّ الترجمة الفرنسية.
هذه التجربة التي أرجو أن تحظى باهتمامكم وتعاليقكم، مازالت مفتوحة على إمكانيّة إضافة تفاعليّة باللّغة الألمانية. ولكن لكلّ حدث جديد حديث جديد وتعليق جديد. أنتظر ردود فعلكم، وقراءة ممتعة للجميع

مبعثرة مبعثرة

إلى الشّاعرة الصّديقة كوثر التّابعي
كلم نابع من عمق نصّ لها بنفس العنوان
*********

مُبَعْثَرَه، مُبَعْثَرَه
كَعِقْدِ يَاسَمِينِهَا،
تَنَاثَرَتْ حَبَّاتُهُ
فِي ذَاتِ سُهْدٍ مُقْمِرَه
***
مُبَعْثَرَه، مُبَعْثَرَه
كَهَذِهِ الأَوْرَاقِ
يَذْرُوهَا الخَرِيفُ عَلِيلَةً
بَيْنَ الثَّنَايَا المُقْفِرَه
***
مُبَعْثَرَه، مُبَعْثَرَه
كَالكِسْتِنَاءِ تَدَحْرَجَتْ حَبَّاتُهُ
فَوْقَ الرَّصِيفِ
إِذِ انْزَلَقْتُ فَخَانَنِي قِرْطَاسُهَا
تَحْتَ السَّمَاءِ المُمْطِرَه
***
مُبَعْثَرَه، مُبَعْثَرَه
بَيْنَ الدَّفَاتِرِ وَالكُتُبْ
بَيْنَ الحُرُوفِ وَمُفْرَدَاتِي إِذْ يَلُوذُ بِهَا التَّعَبْ
بَيْنَ المَسَافَاتِ البَعِيدَةِ
تَفْصِلُ الأَوْطَانَ عَنْ وَجَعِ المُحِبّْ
***
مُبَعْثَرَه، مُبَعْثَرَه
بَيْنَ اللُّغَاتِ
وَفَارِقِ التَّوْقِيتِ وَالأَزْمَانِ
وَالعَادَاتِ وَالأَدْيَانِ
وَالسَّفَرِ الحَضَارِيِّ المُدَجَّجِ بِالسُّؤَالِ عَنِ المَعَانِي
***
مُبَعْثَرَه، مُبَعْثَرَه
بَيْنَ المَقَامَاتِ اسْتَطَالَتْ أَوْ تَدَنَّتْ
بَيْنَ خُطْوِي هَا هُنَا أَوْ هَا هُنَاكْ
وَهُنَالِكَ النَّوَسَانُ بَيْنَ الحُلْمِ
وَالصَّحْوِ المُحَصَّنِ بِالحَنِينِ
وَيَقْظَةٍ لَا أَمْسَ يَسْنُدُهَا
وَلَا مِنْ حَاضِرٍ تَقْتَاتُ
حَتَّى يَسْتَقِيمَ لَهَا الغَدُ
***
مُبَعْثَرَه، مُبَعْثَرَه
كَدُمًى جَفَتْهَا طِفْلَةٌ عَافَتْ مُوَاصَلَةَ اللَّعِبْ
كَسُبَاتِ كُجَّاتِ الزُّجَاجِ الزَّاهِيَاتِ
اغْبَرَّ لَوْنُ بَرِيقِهَا
مُذْ مَجَّهَا طِفْلٌ تَنَكَّرَ لِلشَّقَاوَةِ وَالشَّغَبْ
***
مُبَعْثَرَه، مُبَعْثَرَه
كَحَقَائِبِ الآلَافِ مِمَّنْ شَرَّدَتْهُمْ نَارُ حَرْبٍ مُوقَدَه
وَكَمِثْلِ أَكْيَاسِ الَّذِينَ بِلَا سُقُوفٍ
أَثَّثُوا المُدُنَ الكَبِيرَةَ نَائِمِينَ عَلَى الرَّصِيفِ
وَدُونَهُمْ أَبْوَابُ دِفْءٍ مُوصَدَه
***
مُبَعْثَرَه، مُبَعْثَرَه
كَنُثَارِ حُلْمٍ
أَطْرَدَتْهُ مِنَ العُيُونِ رُؤَى الأَرَقْ
كَشَتَاتِ أَحْدَاثٍ جِسَامٍ
تَشْتَهِي نَظْمًا بِمَتْنِ رِوَايَةٍ
وَبِرَأْسِ كَاتِبِهَا صُدَاعٌ
يَمْنَعُ الكَلِمَ الطَّرِيدَ مِنَ الهُبُوطِ عَلَى الوَرَقْ

الهكواتي
الغزالة 21 جوان 2017


وهذه الآن القصيدة الاصلية أو النّصّ المُقَابَلُ

مبعثرة


مبعثرة
كعقد ياسمين
انفرط من شدة وجده
ذات ليلة صيف مقمرة
*
مبعثرة
كأوراق خريف خجلى
عبثت بها أول ريح
كحبات كستناء
تفتقت لتوها عند بلوغ الرصيف
لتنتثر هنا وهناك
*
مبعثرة
بين الدفاتر
والكتب
والكلمات
والمسافات
والأوطان
والأزمنة
واللغات
والأديان
والمقامات
*
مبعثرة
هنا
وهناك
وهنالك
*
مبعثرة
بين الحلم
واليقظة
بين الشّك
واليقين
بين الحقيقة
والخيال
بين أمس
وحاضر
وغد
*
مبعثرة
كدمى طفلة عافت اللعب
ككريات زجاجية زاهية لطفل مدلل
كأكياس المشردين في المدن الكبيرة
كحقائب الهاربين من جحيم الحرب
*
مبعثرة
كتفاصيل رواية
لم تكتب بعد.

كوثر التابعي في جوان 201




وهذه الآن الترجمة الألمانية التي أنجزتها الشاعرة بعد أن اقترحت عليها "مقابلتي" لنصها الأصليّ

zerstoben



zerstoben
wie
die blüten einer kette aus jasmin
in einer mondhellen liebesnacht
verweht
wie
wirbelnde herbstblätter
im ersten septembersturm
verteilt
zwischen den
notizheften
büchern
wörtern
enzyklopädien
entfernungen
heimaten
zeiten
sprachen
religionen
und melodien
zerrissen
zwischen
traum und wachsein
fantasie und wirklichkeit
zweifel und gewissheit
zwischen
gestern,
heute
und morgen

verweilend im
hier,
da
und dort

verstreut
wie platzende kastanien,
die aufs pflaster prallen
wie die puppen eins mädchens,
das gerade das verliebtsein entdeckt
wie die bunten murmeln eines hochbegabten buben
wie die plastiktüten obdachloser der grossen städte
wie die koffer vom krieg flüchtender
wie die einzelheiten eines romans
der noch nicht geschrieben wurde.
K. Tabai, München im Juni 2017
أرسلت إليّ هذه الترجمة في 8 جويلية 2017


وهذا نصّ الترجمة إلى اللغة الفرنسية، والتي أنجزتها بعد توصلي بالترجمة الألمانية




Eparpillée



Eparpillée
Telles ces fleurs d'un collier de jasmin,
dispersées sous un clair de lune,
dans une nuit d’été.

Eparpillée
Telles ces feuilles d'automne
gisant timidement
sous les caresses du premier vent venu.

Telles ces graines de marron
s’écrasant et s’éparpillant,
ça et là,
sur la chaussée !

Eparpillée
Entre calepins et livres
Entre paroles et distances,
Entre patries et saisons
Entre langues, religions et modes

Eparpillée
Ici, là et là bas
Entre rêve et éveil,
Entre doute et certitude,
Entre réel et imaginaire,
Entre hier, aujourd'hui et demain.

Eparpillée
Telles ces poupées d’une enfant,
dégoûtée de jouer,
Telles ces billes multicolores d’un enfant gâté
Tels ces sachets des sans abris peuplant les mégapoles
Telles ces valises des sinistrés fuyant l’enfer des guerres.

Eparpillée
Tels ces détails d'un roman qui tarde à s’écrire.

Kaouther Tabaai - München , juin 2017
Traduction  Al Hakawaaty – Ariana 9 juillet 2017
(ترجمة عن النّص الأصلي بالعربية)


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني