تقديم رواية "المشعوذون" لعبد الواحد براهم

المشعوذون
أو الكتابة بملائكة الرّحمان

تقديم لرواية "المشعوذون" لعبد الواحد براهم
المكتبة المعلوماتية بأريانة في 10 مارس 2017

هذا كتاب من 160 صفحة من القطع المتوسّط على ورق صقيل في إخراج نصّيّ جميل بخط من حجم يكفي لتسهيل عملية التلقّي. الكتاب صدر في مثل هذا الشّهر من السنة الماضية (2016) عن دار نيرفانا. وهو كتاب جدير، مادّيّا، بحمل هذه الصّفة، في مشهد ثقافيّ ندر فيه المنشور الذي يستجيب لمواصفات الكتاب وأصبح النّاشر الذي يحترم قراءه استثناء.



الكاتب، على ما أرى، لا يحتاج تعريفا. ولكن لمن كان منكم حديث الاهتمام بالسّاحة الثّقافية أكتفي بقراءة هذه الجملة من ظهر الكتاب: "عبد الواحد براهم يزاول الكتابة والنّشاط الثقافي منذ خمسين عاما. كتب القصة والرّواية وأدب الرّحلة وقصّة الأطفال واهتم بالنقد والمقال الصحفي" . وهو كما ترون (وهذه من عندي لا من ظهر الكتاب) من جيل الشّباب الدّائم. وساحتنا الثقافية ما تزال تنتظر منه مزيد العطاء والنّشاط.
يحمل الكتاب عنوان "المشعوذون". ورغم أنّ غلافه يفصح عن جنس نصّه (رواية)، أي تخييل في تخييل، فلست أدري لماذ سكنني من البداية سؤال: من يكون المشعوذون الذين يقصدهم عبد الواحد براهم في هذا الأثر ؟
قد يكون ذلك لأنّ الكتاب صدر وأنا ما أزال تحت تأثير بعض قضايا الشعوذة التي أثيرت مؤخرا ومنها:
- ذلك المشعوذ المدعوّ بالمغربي والذي انتصب في الجنوب الغربي للعاصمة يداوي بالبصاق وأقبلت عليه جحافل المتطبّبين ببصاقه المبارك، وزاده فضول كامرات التّلفزة الباحثة عن "البوز"، اشهارا مجانيا وترويجا،
-  وذلك الشّابّ التّاجر الذي روى في أحد البرامج التّلفزية كيف دفع من رأسماله مئات الملايين من مليماتنا، منتظرا أن تُكمل عصابة من المشعوذين من جهة بنزرت أشغال استخراج كنز من بيته العتيق بالجنوب، وكيف اضطر أخيرا إلى رفع قضيّة ضد مجهول بتهمة التّحيّل.
وقد يكون ذلك أيضا لأنّ آخر كتاب قرأته لعبد الواحد براهم كان عنوانه "هل صحيح أنّنا قمنا بثورة؟" وقد تناول فيه المشهد السّياسي التّونسي بوصف يوحى بالضّرورة ببعد رمزيّ ومعنى مجازيّ للشّعوذة لا نملك إلاّ الانصرافَ إليه ونحن نشاهد ما تحفل به "بلاتوهات" التلفزة التونسية إلى اليوم من هرطقات وبهلوانيات مُتَستّرة بالدّيمقراطية وحرّية التعبير.



أولها وفقة
ولكن قبل الغوص في البحث عمّن يكون المشعوذون، لنتفق على أمرين:
أوّلهما : أنّ هذه القراءة التي تسعى بصدق إلى الاقتراب أكثر ما يمكن من الموضوعية، عبر صياغة أسئلة واستخراج شواهد تبرّر طرحها، وربّما توحي لكم في طياتها بهذا الجواب أو ذاك، إنّما هي قراءة لا تعدو أن تكون واحدة من عديد القراءات الممكنة وبالتّالي فهي تتّسم بقدر كبير من الذّاتيّة ولا يحقّ لي ولا لأي كان أن يعتمدها حكما نقديّا لهذا الكتاب أو عليه.
وثانيهما : أنّه إذا كان من حكم موضوعيّ بشأن محتوى هذا الكتاب لا جدال فيه ولا مجال عندي لأيّ خلاف حوله، فهو أنّه يجمع بين سلامة اللّغة وصفائها وبين جمال الأسلوب إلى حدّ الشّاعرية في أحيان كثيرة. وما هذا إلاّ إقرار بحقيقة ملموسة في نصوص عبد الواحد براهم التي تسنّى لي الاطلاع عليها، وما هي بالقليلة.
وما دمنا بهذا الصّدد، فلنفتح قوسا لنستعرض هذه الفقرات السريعة. وما هذا من باب تقديم دليل على صحّة ما أذهب إليه، ولكن من باب تشويقكم إلى ما ينتظركم من متعة عند القراءة :
لتنأمّل مثلا شاعرية هذه اللوحة : (ص24 – 1)*
ولنقرأ - ولكن بآذاننا - الفقرة الموالية :  (ص24 – 2)
ثمّ لنتدبّر هنا هذه التقنية العالية في الصّياغة السردية حيث يتمكن الكاتب من التقدّم بالسّرد جامعا -في مشهد واحد من فقرة واحدة- بين تلخيص حال القبيلة في فترة زمنية مضت وكان السرد أثناءها متوقّفا، وبين الإعداد لفترة زمنية جديدة تنبئ بأحداث يتشوق لها القارئ وينتظرها في أي لحظة : (ص25)
وختاما لننظر إلى هذا الوصف وهو جزء من لوحة سردية متكاملة متينة الحبك (ص26 + سطر) –
رأينا هنا كيف أن القارئ كأنما كان حاضرا يحاول التّعرف على هذه العجوز أو مشاهدة وجهها فلا يظفر بأكثر من عرائها من خلف ثم من أمام، وأخيرا يتوصّل إلى رؤية وجهها بكل ما فيه من تفاصيل أقبح من ذلك العراء.
بوح العتبات
اتفقنا إذن على أنّ ما سيأتي من أسئلة يتجاوز مسألةَ أدبيةِ النّصّ التي لا جدال حولها، ولا يهدف إلاّ إلى التّعمّق في فهم مضمون الرّواية والتّعرّف على نوعها وعلى ما قد تكون جاءت به من جديد، ولطرح بعض القضايا التقنية للنّقاش، استغلالا لحضور الكاتب بيننا حتى ينيرنا بشأنها فتحصل من إضاءاته فائدة مضاعفة.
لنعد الآن إلى سؤالنا: "من هم المشعوذون"؟ وحتى نشرع في محاولة الجواب، لنخرج من المتن ولنبدأ من البداية. والبداية أن نمسك الكتاب مغلقا.
طرفة للدخول في الموضوع : حضرت مرة تقديم كتاب فيه إهداء "إلى حبيبتي نورة مصباح". كان المقدم يقرأ العتبات بالتفصيل الممل فعلّق على الاهداء : "ألا ترون في ذلك إشارة إلى نور مّا ربّما كانت  البطلة تسعى إليه ؟"... أحدهم طرح عليه السؤال: ماذا كان يمكنك أن تستنتج لو كان الإهداء "إلى حبيبتي معيوفة اللّيلي"؟ (وتعرفون أن الاسم واللقب موجودان في تونس)
أردت بهذه الطّرفة أن أشير إلى أن بعض مقدمي الكتب في المنتديات يلجؤون في كثير من الأحيان إلى قراءة العتبات كي يغطّوا عن تقصيرهم في قراءة الكتاب. فتراهم يصفون الغلاف وصفا ساذجا ويستنتجون من العتبات بعض استنتاجات ما أنزل الله بها من سلطان. هل يعني هذا أنّ قراءة العتبات لا جدوى منها ؟
بالعكس، فقراءة العتبات مثيرة. معبّرة حينا، وإن كانت عديمة المعنى غالبا. مغرية بالوَصْلِ لمن يخاف الإيغال في النّصّ، متعبة لمن لا يجد مفاتيح النّصّ بدونها. وهي في بعض الأحيان، تفصح عمّا قد لا يفصح عنه النّصّ ذاته.
والكتاب الذي بين أيدينا يقول بعتباته الكثير ممّا يدعو إلى التّوقّف والمساءلة. ولأنّ المهمّ في تقديم رواية ليس الكشف عن أحداثها، بقدر ما هو التّشويق لقراءتها، فلعلّي أميل إلى تركيز الجزء الأكبر من مداخلتي على استنطاق العتبات، ولكن مع الولوج منها إلى النّصّ في مواطن حسّاسة منه، عملا على إضاءتها به لا على إضاءته بها. وهكذا أترك إلى الخاتمة ما قد يتبقى لي من أسئلة أطرحها على النّصّ وخاصّة منها ما يتعلّق بتصنيفه وبتقنيات كتابته.



غلاف على درجة عالية من الحرفية
تُمسك الكتاب مغلقا وتنظر/: أوّل العتبات العنوان "المشعوذون". لا تكاد تتساءل عمّن يكون المقصودون، حتى تملأ بصرك لوحة الغلاف. لوحة تشكيلية بالوان زاهية زَهْوَ الرّاقصة عارية  لا تكاد تتوسم فيها اغراءً حتى تكتشف جِراحَها وشروخَها وكبّالاتٍ تقيّد يدها المرفوعةَ بمشعل النّصر، وجسدا شيطانيا رماديَّ الزّرقة يعرقل منها الرِّجْلين ويوغل إصبعًا في شرخ عميق يشجّ كامل ردفها وفخذها.
تحاول استقراء العلامات فتجدها متعددة مبعثرة وتجد العلاقات بينها غامضة وتوزيعَها على مساحة اللوحة محيّرا. فكيف تستطيع ترتيبها وفكّ طلاسمها؟ لعل قراءة هذه اللّوحةِ، وفكَّ الغاز هذه العلامات أصعبُ من قراءة النّص ذاته. ولكن يمكن الخروج منها بانطباع :
إنها صيغت بروح طفوليّة ساذجة تفصح عن اضطراب مّا، يسِم المقاربة التّشكيلية للموضوع المطروح. أو لعلّها مقاربة تتعمّد الوفاء لاضطراب مّا في مقاربة النّص لهذا الموضوع. أو، وهذا أخطر، لعلّها ترجمة لاضطراب مّا يسم واقعا يريد العنوان واللّوحة، وربما النّص أيضا، التعبيرَ عنه.
هذا الواقع مرتبط بمكان تفصح عنه علامة بارزة لا تقبل في التّأويل أيّ اختلاف : إنّه علم تونس لا نراه مرفرفا في سمائها، ولكن نجده عصابة على رأس تلك المرأة الرّاقصة. وسيكون من المجازفة أن أميل إلى المعنى القماشيّ لكلمة "عصابة" أو إلى معناها الآخر الذي أترك لكم اكتشافَه.
لم يعد من مجال للجدال إذًا /: اللوحة والعنوان متكاملان دلاليّا، متواطئان في الاستحواذ على زاوية نظر القراءة وتوجيه المتقبّل إلى تأويل للنّص لا يخرج عمّا عيّنه الكاتب.
ولكن قد يقال لي إنّ لوحة الغلاف إنشاء مستقل عن إنشاء النّصّ، وإنّ هذا التّوجيه قد لا يكون مقصودا. وحتّى إن كانت اللوحة قد اختيرت عن قصد، فربّما كان هذا الاختيار من فعل النّاشر، لا دخل فيه لصاحب النّصّ.
لو كانت هذه الفرضية صحيحة فإنّنا سوف لن نجد للّوحة معرّفا. ولكنّنا حالما نقلب الكتاب لنتأمّل صفحة غلاف الظّهر، سنجد للوحة عنوانا "وجع" ومنشئةً معروفةً "فاطمة بن سلامة". وهكذا، ما كان استعمال اللوحة في الغلاف صدفة ولا سطوا على عمل فنّي مجهولِ المصدر. وبالتّالي فمسؤولية الكاتب في اختيارها لا شكّ فيها. فلا أتصوّر ناشرا يقدم على استعمال أثر فنّيّ معترف بصاحبه ملزِم له بتحمّل حقوق تأليف، وكلّ هذا دون طلب من الكاتب أو على الأقل موافقة منه. حتّى أنّني أميل إلى طرح السّؤال على سي عبد الواحد: ألم تتخذ الرّسّامة نصّك منطلقا لإنشاء هذه اللّوحة؟
لتترك الإجابة إلى الآخر. لأنني شخصيّا، أرى فيها، بعد القراءة، ملامح مشهد محوريّ من مشاهد روايتك. وأعني مشهد إحدى حلقات زهو البال الليلية التي كان يقيمها يونس باي في فترة من تاريخ البلاد والتي يصفها النّصّ مطنبا في استعراض بعض ما ترتّب عنها من نتائج وفي استحضار بعض الفظائع التي كانت ترتكب في تلك الفترة خارج القصر حالما يطلع النّهار، ورابطا بعض شخوصها ببعض زوايا الأولياء الصّالحين. فهل رسمت اللوحة مخصوصا لتكون غلافا "للمشعوذين" مترجما لروح الرّواية؟



إذا صحت فرضية استلهام هذه اللوحة من ذلك المشهد، فإنّنا نكون قد عيّنّا فترة محدّدة لبحثنا عمّن يكون المشعوذون: أقصد فترة من التّاريخ كانت تونس أثناءها محكومة من يونس باي وأبيه علي باشا وقبلهما من عمِّه حسين باي. وهي فترة تغطّيها ثلاثة أرباع الرّواية التي أظهرت هؤلاء الحكّام بمظهر المشعوذين في تناحرهم على الحكم واستمالتهم المتصوّفين، خوفا من أذاهم وكراماتهم المفترضة، وتقرّبا بواسطتهم إلى هذه القبيلة أو تلك، في زمن كانت العشائر فيه تتخذ من أولياء الله وسيلتها إلى عالم الغيب والشهادة. وهو وضع اجتماعيّ/ثقافيّ سهّل على أولئك الحكّام استعمال هذه القبائل لتكون، في النّهاية، حطبا لحروبهم، لا تهدأ بينها الفتن نصرة لهذا الطّرف أو لذاك على أخيه أو ابن عمّه أو حتّى أبيه أو ابنه.
هو تاريخنا إذًا. وبعيدون عن زماننا هم المشعوذون. ولكن مهلا، ما هي سوى فرضيةٍ، ربّما تؤكّدها بقيّة العتبات. فلنواصل استنطاقها.
قبل أن نفتح الكتاب، نجد في ظهر الغلاف مقتطفا من نصّه فلنقرأه : (قراءة من الغلاف)
هذا كلام عن "فكر حديث"، وعن بلاد أهلها فيها بأجسادهم فقط، بينما فكرهم يؤثر فيه غلاة المذاهب الخ... إنه إذًا كلام اليوم عن زمن الآن والهنا. فلنبحث عن المشهد الذي اقتطف منه هذا الشّاهد. إنّه في آخر الرّواية، حيث نجد أعوان المعهد الوطني للآثار يقومون بأشغال للكشف عن بعض تراث البلاد غير المادّي (فسيفساء)، فإذا العاملون يتوقّفون عن العمل لعثورهم على ثعبان اعتبروه روح الولي الصّالح المجاور لموقع الحفريات ويطالبون بذبح تيس أسود لاسترضاء الولي قبل مواصلة الأشغال، والحال ألاّ وجود في بنود ميزانية معهد التراث، لفصل يخول شراء هذا التّيس.
الوضعية معبّرة دون حاجة إلى مزيد من التعقيد. ولكن، رأى الكاتب، في ذلك الظّرف بالذّات، أن يظهر أعوان الدّولة يعدّون لزيارة يتأهب رئيس البلاد للقيام بها لموقع الحفريات، ولعلّها برمجت أساسا للتغطيةِ على زيارة "سيدة تونس الأولى" لمقام الوليّ طلبا لشفاء أحد أفراد عائلتها.
ما عادت تلك الحقبة القديمة من تاريخ تونس هي المقصودة بهذه الرّواية. أو على الأقل، لم تعد وحدها مقصودة. بل لعلّ الإحالة على الماضي مجرّدُ تعلّة أو مدخل للتأكيد على أنّ الشعوذة المقصودة هي شعوذة الآن والهنا.



وتشهد الصّحافة
وبالفعل، فحين نفتح الكتاب نحد أنّ النّصّ الأوّل الذي يعترض القارئ بعد صفحات العنوان، هو "لمحة" للصديق المرحوم محمّد قلبي، منشورةٌ بجريدة الصّباح، اتخذ عبد الواحد براهم عنوانها "المشعوذون" عنوانا لروايته – قراءة اللمحة ص5 –
نحن هنا إذًا إزاء ظاهرة الشعوذة كما توسمتها في البداية حال اصطدام بصري بالعنوان الذي أحال ذاكرتي على وسيلة إعلام سمعية بصرية "التلفزة"، بينما تحيلني "لمحة" محمد قلبي إلى الصحافة المكتوبة.
والصحافة المكتوبة لا تكتفي في هذا الكتاب يدور عتبةِ البدء. فلعلّ العتبة الموازية لمنطوق جريدة الصّباح، والتي تقوم مقام عتبة الختام، تزيد دلالة على دلالة : فحال نهاية الرّواية، وحيث ننتظر وجود فهرس يساعد على العودة إلى فصوله، تعترضنا الصفحتان 156 و157، بصورتين لصفحات من جرائد، نتبين منها "القدس العربي" لا في نسختها الورقية ولكن في موقعها الالكتروني المحيل على آخر ما بلغته التكنولوجيات الحديثة، ولكن لنقرأ في هذه الصفحات التي نجد في إحداها تاريخ نشرها أو تحميلها (الاحد 10 افريل 2004 أو 2006؟؟). ونقرأ العناوين : كيف تتعلّم اللطم والتطبير وضرب الزنجيل في ساعة ؟ - وجها إبليس – الإقامة العربية في الخوف – الصّديق الذي أبى أن يخرج من الجنّة – ما حاجتنا للإعتقاد في الكائنات الغريبة – كاتبة ألمانية : القمع شوش ذاكرة المسلمين.
يصعب كثير ألاّ يكون الرّبط بين الانترنت وهذه المواضيع مقصودا لذاته، كما لا يخفى أن اقتطاف هذه المقالات من صحيفة عربية عالمية الانتشار، فيه إشارة صريحة إلى أن الشعوذة المقصودة، ظاهرة تتجاوز فضاء تونس إلى الفضاء العربي الاسلامي قاطبة.
عتبات داخلية
في داخل الكتاب نجد نصّا مهيكلا بشكل يبدو منتظما بغاية الاحكام يتركّب من مدخل في صفحة وحيدة كدت أحسبها من العتبات لولا أنّها تتحدّث عن طفل بدا لي أنه نفسُ الشخصية الروائية التي ستدعى في عناوين الفصول باسم الفتى، يليه ما يشبه مقدّمة سرديّة، من 21 صفحة، كدت أحسبها مستقلّة لولا أنّ شخوصها وأحداثها تتواصل بنفس الشّكل في فصول ثلاثة متباينة الطّول كلّ منها مقسّم إلى أجزاء تحمل أرقاما الأول من 1 إلى 4 والثاني من 5 إلى 12 (وهذان الفصلان أجزاؤهما تخضع إلى نفس التسلسل) والثالث يبدو مستقلا من حيث خضوع جزأيه إلى حساب جديد (1و2).
اللافت في ما سمّيته مقدّمة سرديّة وفي الفصول أنّها تحمل عناوين وتصديرات هي عتبات داخلية تستحق أن نقف عندها فنستنطقها لأنّها تؤكّد قصد الكاتب جعل كلِّ عتباتِ نصّه معبّرة.
أول ما نستنتجه هو أنّ التّصديرات الأربعة حملت إمضاءين عربيّين أحدهما أقدم الأربعة وأشهر من نار على علم وهو أبو حامد الغزالي، والثاني قرأت اسمه -علي زيعور- لأوّل مرّة في هذا الكتاب واتضح، بالبحث خارج الكتاب، أنّه أستاذ فلسفة في الجامعة اللبنانية وهو معاصر (اثناء كتابة الرواية او بعدها) وقد قدّمت مجلة الحياة اللبنانية آخر كتاب له بعنوان "الفلسفة المحضة والفلسفات النّفسية والطبيعية" بتاريخ 22 ماي 2015.
مقابل إمضاءين غربيين لم أكن أعرف أحدا منهما قبل قراءة التصديرين بإمضاءيهما. أولهما أندريس إيبانيز (Andrès Ibanêz) وهو حسب ويكيبيديا رجل سياسة بوليفي (لا اسباني كما قرأت في التصدير) عاش في القرن التاسع عشر وانتمى إلى "التّيار التّعادلي"، وثانيهما كاتب وصحفي بريطاني وجدت استشهادات من كتاب له بعنوان "العلم والانسان المعاصر"  في مواقع عربية منها موقع المثقّف، في مقال صادر  بتاريخ 6 / 5 / 2012 تحت عنوان "سفّاحون محميون" يحمل إمضاء احمد السّلمان ولعلّه الأقرب إلى موضوع كتابنا هذا، أو لنقل إلى تحليل شخصية يونس باي في عنفها الذاهب إلى الأقاصي (ذبح عمّه حسين باي بيده).
ما يهمني في دلالات هذه الإمضاءات هو أولا تقسيم التّصديرات بالتساوي بين عالمين: الشرقِ العَرَبي والغربِ الأوروبي (لأن جنسية إيبانيز الاسبانية هي التي أبرزها الكاتب)، وثانيا تقسيمها من حيث المقصد بين رأي يتبنّاه فيلسوف واحد عربي مسلم معتّق (الغزالي) معروف بتراجعه عن اعتماد العقل والاطمئنان إلى نور يقذفه الله في الصدور، وقوله هنا: " ما يُبصَر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة ممّا يُبصَر بالحواسّ"، يعتبر انتصارا لشعوذة المشعوذين، وبين رأي يتبنّاه ثلاثة كتّاب معاصرين (ولو نسبيا بالنسبة الى الإسباني-ق19)، سعى الكاتب بإيراد أقوالهم  إلى تسليط ضوء شبه علمي على ظاهرة الشّعوذة، بما يعدّ انتصارا للعقل على هذه الظّاهرة.



لنقرأ :"عندما يشتد اليأس بالمجتمع تقوى حاجته للاستنجاد بكائنات علوية" (ابليارد) - "الآباء خدعوا أبناءهم قائلين ان الحياة ستصبح رائعة" (ايبانيز) –"إذا تضخمت البنى الوجدانية على حساب العقل فتلك طريقة البحث عن خلاص" (زيعور).
قبل مغادرة العتبات وملامسة متن النّصّ أخيرا، عندي سؤال سريع أصوغه على نمط عنوان كتاب عبد الواحد براهم السّابق : هل صحيح أننا هنا إزاء رواية؟ ألا يكون هذا النّصّ أقربَ إلى بحث وثائقيّ تاريخي في ظاهرة لها من الماضي جذور ما تزال أغصان الحاضر مرتبطة بها؟
ما يبرّر هذا السّؤال هو آخر العتبات الدّاخلية، أقصد عناوين الفصول :
فبعد مدخل عنوانه "مدخل"، نجد أربعة فصول لا يسميها الكاتب فصولا ولكن يعطيها عناوين:
الأول:  "رؤية شبحية"  وقوامه 21 صفحة مسترسلة بلا تقسيم من9 إلى29.
الثاني:  "الفتى في عصره" وقوامه 34 صفحة من31 إلى 64 مقسمة إلى أربعة أجزاء تحمل أرقاما من 1 إلى 4.
الثالث: "الفتى في غير عصره" وقوامه 68 صفحة (أي نصف المصنّف) من 65 إلى 132 مقسمة إلى 8 أجزاء مرقّمة من 5 إلى 12.
الرّابع : "الفتى يعود إلى عصره" قوامه 22 صفحة من 133 إلى 155 مقسمة إلى جزأين مرقّمين ترقيما جديدا من 1 إلى 2 .
أوّل ما نلاحظه بهذا الترقيم أنّ الفصلين الثاني والثالث ربط الكاتب بينهما، بهذا التلسل الحسابي، ربطا يكاد يجعل منهما نفس الفصل. وفي هذا الحاح على استقلالهما عمّا سمّيته المقدّمة السردية، وكذلك عن الفصل الأخير الذي لا يشاركه المكان ولا الزمان ولا الشخوص ولكنه يعادله من حيث عدد الصفحات (21-22) ، بينما يشترك الفصلان الثاني والثالث في كلّ شيء تقريبا ويمسحان معا 102 صفحة (34 مع 68)
الملاحظة الثانية ولعلّها الأهمّ هي أنّ هذه الفصول، كما رأينا، تشير في ثلاثة من عناوينها إلى شخصيّة الفتى. وهذه الإشارة دليل قاطع على أنّ الكاتب أراد أن يقنعنا بأنّها الشخصية الأساسية لروايته. ولكن هل سنجدها عند القراءة أساسية، من حيث حضورُها وتمحوُرُ أحداث الرّواية حولها ؟ هذا هو ما يريد أن يوهمنا به حضورها الصارخ في العناوين. أمّا القراءة فستفيدنا بأنّها شخصية ذات حضور هامشيّ سلبيّ ، لا يتجاوز قراءة الكتب القديمة، إلاّ في جزء بسيط من الفصل الثاني الذي يرتكز على شخصيّة العمّ المشتغل بالشعوذة والذي يحتك به الفتى في بيت العائلة المشترك حيث يطّلع في مخدعه على بعض الكتب، ثمّ في الفصل الأخير حيث نجد الفتى طالبا في الصّربون دون سابق تمهيد، يحضر محاضرة مع صديق، ثم نجده مباشرة في موقع الحفريات مشرفا عليها.
وختامُها النّصّ
حين أنظر إلى ما سبق أراني أكاد أكون أكملت تقديم الرّواية، وأحطت بنصّها إحاطة كاملة من خلال استنطاق العتبات وحدها. ولذلك، وحتى تطمئنّوا على أنّنني لن أطيل عليكم أكثر، فسيكون دخولي إلى النّصّ بسرعة فائقة. وما ذلك لأنّه خال من العلامات الجديرة بالمساءلة. فالعكس هو الصحيح. وليس ما سبق سوى تمهيد لقراءة نقدية معمّقة تغوص فيما خفي من النّصّ وهو أعظم. فعديدة هي الأسئلة التي تستدعي الطّرح ولكنني سأكتفي بطرح ثلاثة منها بما فيه مزيدُ الإضاءة لهذه الرّواية من ناحية، واستفزازُ لكاتبها حتى يجيب عنها من ناحية ثانية :
بداية، أقرأ لكم هذه الفقرة التي عنوانها "مدخل" (قراءة).. الله، ما أروع هذه الصّياغة. أراها بين معقفين كما لو أنها اقتطفت من نصّ لغير كاتب الرّواية. ولكن لست أدري لماذا أنا متأكد من العكس، ولماذا، حين أتأمّل هذه النّزعة الغرائبية التي هي أساس شاعرية الفقرة، يقفز السّؤال في ذهني من جديد: "من هم المشعوذون؟" و"أي شعوذة يقصد كاتبنا؟". ربّاه، هل يكون براهم قد قصد بالشعوذة هذا النوع من الكتابة الأدبيّة الشاحذة لخيال الأطفال ؟؟؟
ثانيا، حين نتابع أحداث الرّواية نجد أنّها صيغت في مثل لوحة تجريدية تحيلنا من جديد على لوحة الغلاف. قد لا نقف على خطّ سرديّ ثابت أو شخصيات نتابع حياتها من البداية إلى النّهاية. ولكننا نجد خيطا جامعا هو المكان تونس (فضاء اللوحة التجريدية). الزّمان يمكن أن نقسّمه إلى ثلاثة أوقات: حقبة من تاريخ تونس في عهد على باشا، وحقبة صغيرة من طفولة الفتى المبكّرة قبيل الاستقلال، ثم أوان الحفريات في أواخر أيام حكم بن علي. أمّا الشخصيات الفاعلة فمجموعات ثلاثٌ : الأولى تتكون من حكام الفترة التاريخية المعنية وبعض أعيان القبائل، والثانية تتكون من عدد من الأولياء الصالحين تكاد الرّواية تقدم لنا جردا كاملا لأسمائهم وسردا لكراماتهم المزعومة، ويكاد السرد مع هاتين المجموعتين يتحول إلى نقل من كتب التّاريخ مع بعض الاجتهاد لبناء مواقف قصصيّة في عديد المواطن من النّص. تبقى المجموعة الثالثة وهي تتكون من الفتى وعمّه وجدته في البداية ثمّ يضاف إليهم صديقُه وعمّالُه في النهاية. والسّؤال الذي يطرح نفسه من جديد: أي نوع من الرّوايات هي "المشعوذون" ؟ بحث اجتماعيّ مبسِّط في شكل قصصيّ ؟ رواية تاريخيّة ؟ نوع بين بين ؟
ثالثا، منذ بداية الرّواية يفاجئنا الكاتب باستعمال ضمير المتكلّم. ولا يترك لنا المجال للتساؤل عن هوية السّارد، بل يعلن مخاطبُنا عن نفسه مباشرة. إنه كائن لا مرئيّ حلّ ورفيقُه مرسَلا من قوى غيبيةٍ ، كأنّهما من ملائكة الرّحمان، قصد متابعة أحداثٍ هي مقدّرةٌ سلفا ولا دورَ له ولا لمرافِقه إلا مراقبتُها والحثُّ على وقوعها كما قدّرت تماما. لقد اكتفى عبد الواحد براهم بخلق شخصية كاتب ومرافقه ثمّ انسحب نهائيّا ليحرّك خيوطه من خلف الستار.



بداية اشتغال شخصية الكاتب/الملاك بكتابة هذه الرّواية، سبقت بدايةَ أحداثها. والكاتب ورفيقه يعترفان من الصفحة الأولى أنّهما يشتركان في تنفيذ مؤامرة القدر على هذه الرّقعة من الأرض وأهلها. مساكينُ أهلُ تونس بحكامهم ومحكوميهم. ما عاشوه ويعيشونه من فكر خرافيّ ما كان إلاّ مقدّرا عليهم. والكاتبان/الملاكان يشهدان على أنّه الحقّ من ربّهما. فهما يعاينان قيام وليّ صالح من قبره ومخاطبته لهما محتجّا ويتساءلان : هل يتكلم الميت ويجادل ويطلب الغوث ؟ ويجيبان بأنها حكمة الله التي تتجاوز علمَهما، وهما مبعوثا الغيب. فما بالك بالإنسان الضعيف المتقبّل شهادتهما؟ هاتان الشخصيتان اللامرئيتان تتوليان في نفس الوقت مهمة تحريك الأحداث بالتّدخل لدى الشخصيات الشريرة خاصة حتى تواصل فعل الشّر من ثأر وقتل وانتقام وتأجيج فتنة الخ...، ولو أن هذا من مشمولات المرافق بينما كاتبنا/الملاك الآخر، يستأثر بدور الخيِّرِ والخيّر هنا لا يملك روح المبادرة ولا يحرك ساكنا... ولهما ثانيا مهمّة وصف هذه الأحداث وصفا يكاد يكون موضوعيّا، والموضوعية يتطلّبها هنا النّقل من كتب التّاريخ الحقيقيّ لهذه البلاد... كما لهما مهمّة التعليق على الاحداث بتحاليل سياسية واجتماعيّة تكاد تكون مطابقة لما يصدر اليوم عن خبراء وجامعيين من أولئك الذين رأينا أقوالهم في تصدير الفصول.
إزاء هاتين الشخصيتين، لا يملك القارئ إلاّ أن يتساءل عمّا إذا لم يكن الكاتب، ونقصد الآن ذلك الذي يحرّك الخيوط من وراء الستار، متواطئا معهما في نشر الإيمان لدى قرّائه بهذا الفكر الخرافي، متيحا لهما المجال فسيحا لإقامة الدّليل على سلامة هذا النمط من التفكير. أليس هو من ترك مقود السرد بيد هاتين الشخصيتين الملائكيتين اللامرئيتين المرسلتين من الغيب حتى ترويان ما تشهدان على وقوعه من الخوارق أمام أعيننا ؟
لو اقتصر أمر تدخلهما السردي على فصل "الرّؤية الشبحية"، كما يذهب في روعنا حال بداية الحديث على الفتى، لكان في هذا التّكليفُ بالسّرد تجديدا أسلوبيّا مهمّا وحركة فنّية مبرّرة، ولكنّ مسكهما بدفة الحكاية تواصل، لا فقط مع الفصلين الذين ساد فيهما الحديث عن التاريخ والأولياء الصالحين، ولكن حتى في الفصل الأخير المفترض أنّه مستقلّ تماما عن الماضي وعن الفصول السّابقة، بل تواصل حتّى الفقرة الأخيرة من الرّواية (قراءة الفقرة)
نرى أنّ هذا التدخّل على درجة من التناقض لا مثيل لها. فهو كما نقول إبليس ينهى عن المنكر. هو صوت من تلك التي ينبغي أن ننكر وجودها إن كنّا عاقلين، يكلّفه الكاتب بالتدخّل ليهمس لباحث واع بضرورة ملازمة الصّمت أمام هذه الظّاهرة التي يستطيبها مجتمعه.
هل يحق لنا أن نصدّق أن صديقنا عبد الواحد براهم متواطئ مع شخصيتيه اللامرئيتين؟ قطعا لا. بل إننا حين نتأمّل العتبات، نقرأ جيدا ما يضمره عبد الواحد براهم، وهو العكس تماما.
قد يكون علينا إذا أن نطرح السّؤال بشكل آخر : ألا يكون إعطاء كاتبنا هذا التوكيل على السرد لهاتين الشخصيّتين بمثابة السّعي إلى أن يتبرّأ من نصّه تبرّأ كاملا كي يبعد عن نفسه منذ البداية شبهة الانخراط، بوعي منه أو بلا وعي، في كلّ ما له صلة بالشعوذة؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فهل نجح في ذلك؟
أترك الجواب للقرّاء، وقبلهم لكاتبنا عبد الواحد براهم، وأشكر لكم حسن استماعكم.

الهكواتي سالم اللبّان

* تمت القراءة من الصفحات المذكورة على مدى هذا النصّ أثناء المحاضرة، ترجى العودة إلى الكتاب، في انتظار رقمنة الشواهد وإضافتها. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني