الهكواتي في جمعية مراجعات بسوسة

الهكواتي في جمعية مراجعات بسوسة:

"أنا صاحب مشروع إنشائي متكامل"

تغطية لطيفة اللبّان

تتبنى مدونة ورشة الهكواتي اليوم نصّا لواحدة من أعضاء دورة "نوارس الرّوايات العشر"، بدأت تفرض حضورها على مدى السّنوات الأخيرة، بخطى بطيئة ولكن ثابتة، في مجال القصّة القصيرة، متحصّلة بالخصوص على جائزة ملتقى القصّة القصيرة بمساكن ثم جائزة الملتقى السّنوي لنادي القصة بتونس.

من الصّدف الجميلة (وهل ينبغي أن أعتذر عن ذلك؟) أن هذه الكاتبة ليست سوى أختي لطيفة اللبّان، التي تبادر هنا لأوّل مرة بالكتابة في مجال المقال الصّحفي، ربما سعيا منها إلى ما يمكن أن تجده من تأطير من ورشة الهكواتي، في هذا الاختصاص أيضا. وفيما يلي نصّها الذي تظهر فيه بالضرورة آثار التأطير التّقني (التبويب والعناوين من وضع الهكواتي بوصفه رئيس تحرير هذه المدونة) :

*****

انتظمت يوم الأحد 8 جانفي الجاري، بسوسة - سهلول، أصبوحة ثقافية تحتفي بالمسيرة الأدبية للهكواتي سالم اللبّان. وكانت كما قال ضيف الجلسة، أوّل مرة يُستقبَل فيها بمدينة سوسة بوصفه أديبا، بعد مسيرة أفرزت عشرة كتب ورقية دون اعتبار المسرح والموسيقى والمنشورات الالكترونية.

ولأن هذه الجلسة أحاطت بقدر كبير من مسيرة الضّيف، رأينا أن نخصص لها هذه التغطية.



الشاعرة آسيا الشارني رئيسة الفرع المحلي لجمعية مراجعات، التي أشرفت على التّنظيم، بيّنت في افتتاح الأصبوحة أنّ جمعية مراجعات فرع سوسة اختارت أن لا تتوقف عند كتاب بعينه من كتب الهكواتي، متجاوزة ذلك إلى تقديم تجربته كاملة في مجالات الشعر والسرد والرسم والموسيقى وغيرها من ممارساته الفنية. ورحبت آسيا الشارني بالحضور المتكون بالخصوص من أدباء خصّت منهم بالذكر الكاتب والناقد عبد المجيد يوسف والأديب والناشر العراقي حكمت الحاج والشاعر والروائي لطفي الشابي والكاتبة رئيسة صالون الزوراء صفيّة قم والشاعرة عائشة الخضراوي شبيل التي تولت تقديم الضّيف وتجربته.

مناضل ضدّ التّمييز العنصري في مملكة الإنشاء

تقول عائشة الخضراوي عن مسيرة الهكواتي سالم اللّبان الأدبية، إنّه مثقّف تونسي متعدّد المواهب، جمع بين الرّسم والموسيقى والمسرح، كتابة وتمثيلا وإخراجا، ومارس الشّعر والقصّة والرّواية وغيرها... وركّزت بالخصوص على مقولته بأنّه "مناضل ضدّ التمييز العنصري في مملكة الإنشاء". فهو لا يتّخذ من تقنيات الكتابة القصصية أو الروائية أو الشعرية  قيدا يعكّر عليه متعة الانشاء.



وتعرّضت عائشة الخضرواوي في تقديمها لأعماله إلى تجربته في "سنة الهيك" (2004)، حين طرح على نفسه تحدّي كتابة "هيكة" كلّ يوم بالعربية والفرنسية على مدى سنة كاملة، ومن هنا جاءت تسميته بالهكواتي. وقالت إن له في الشعر ثلاثة كتب: "غدا موعد الياسمين"، و"أجراس القارعة" و"طفل المائدتين" وفي القصّة مجموعة "عنقود حكايا" وفي الرواية "بوصلة سيدي النّا..." و"دستور البذنجان وروايات أخرى". وذكرت على سبيل الطرفة أنها تعرّفت على الضّيف صدفة على الشّبكة العنكبوتيّة إبّان استعداده لإصدار العدد الأوّل من مجلة معابر الذي خصّصه لتكريم الأستاذ توفيق بكّار والذي ساهمت فيه بمقال عن أستاذها المحتفى به، مؤكدة أنها تحتفظ من هذه الذكرى بفكرة عن جدّية الرجل وصرامته مع نفسه ومع العاملين معه في انجاز ما يقوم به من مهام. وهي صرامة عاينتها كذلك في مداخلته في ملتقى القصة القصيرة بمساكن حيث قدّم الهكواتي بحثا تميز بالمنهجية الواضحة والجدية في التناول النّقدي.

منشئ لا مبدع

بعد التّقديم، تناولت الأستاذة والكاتبة صفيّة قمْ بن عبد الجليل الكلمة، لتتحدّث عن "الصّدفة السعيدة" التي جمعتها بالهكواتي من خلال لقاء على موجات الإذاعة الوطنية، وكانت هي ضيفة البرنامج عن طريق الهاتف، بينما كان هو في الأستوديو ينفي عن الكاتب صفة الابداع والموهبة ويصرّ على أنّ القيمة الحقيقية لأيّ كتابة هي اتقان الإنشاء، وأنّ الانشاء صناعة وتمرّس لا استعداد فطريّ. وقد وجدت السيدة صفية قمْ في ذلك تفرّدا وتمرّدا على الموروث فتاقت نفسها لمعرفة صاحب هذه النّظرة عن قرب فكان التّواصل بينهما على شبكة الانترنات فتبادلا أثريهما الذين صدرا في نفس الفترة "يشتاقني الحنين" لصفية قمّ و"أجراس القارعة" للهكواتي سالم اللّبان.

ثمّ سردت على الحضور قصّة انخراطها مع عدد من الكتاب في "ورشة الهكواتي"، دورة "نوارس الرّوايات العشر" التي أثمرت رواية للكاتبة نبيهة العيسي تحصّلت على جائزة الكومار الذّهبي لسنة 2016 وروايتها هي (صفية قم) التي بصدد النّشر، ورواية لطفي الشابي التي سترى النور قريبا هي الأخرى، وبعض الروايات الأخرى التي ما تزال في المهد لمنشئين حاولوا خوض غمار تجربة الكتابة في صلب ورشة الهكواتي.



وختاما أمتعت صفية قمْ الحضور بقراءة مقاطع من قصيد طويل من ديوان الهكواتي "أجراس القارعة"  بعنوان "الوصيّة" رأته يتماشى مع شخصيته ويفضح تعففه عن الانخراط في ما يميز المشهد الشّعري الرّاهن من تهافت.

الإنشاء تقانة ودربة لا نور يقذفه الله في الصدور

ودار إثر اذلك، حوار ثريّ أثّثه الحضور، منه ما كان إضاءة إضافيّة عن مسيرة الضّيف، ومنه ما تضمّن أسئلة تستوضح بعض جوانب من هذه المسيرة. ويقول الهكواتي في ردّه على الأسئلة المتعلّقة بتعدد مواهبه إنّ الأصل في هذا التعدّد أنّه حظي بارتياد دار الشّعب بالمنستير خلال سبعينات القرن المنصرم، زمن كانت كلّ إمكانيات اكتشاف الفنون ووسائله متوفرة في مختلف النّوادي التي كانت كلّها تغريه بالانتماء إليها والنّشاط في صلبها. لذلك مارس الموسيقى والمسرح وتنقّل بين نوادي الكشافة والتصوير الشمسي والرسم وغيرها ممّا كوّن لديه زادا فنيّا حاول توظيفه في انتاجاته المختلفة.

ويصرّ الهكواتي، في هذا الشّأن، على استعمال مصطلح "التمييز العنصري" في الرّدّ على المتمسكين بإقامة حدود بين الأجناس الأدبيّة والتّعبيريّة عموما.  فهو إذ يرى أنّ التّصنيف من شأن النّقاد وأنّ حدود الجنسنة واهية، يرفض أيضا مصطلح الإبداع ولا يؤمن في الفنّ بغير مصطلح الانشاء. والإنشاء حسب رأيه عمل يوميّ وإتقان فنّي مصدره المعرفة والدّربة لا الموهبة وما هو "بنور قذفه الله في الصّدور". فمهما كانت قيمة التّكوين الأكاديمي الذي يحصّله الأديب والفنان، لا بدّ "للمنشئ" من العمل على تعلّم آليات إنشائه وتقنياته، إن عبر التّكوين الذّاتيّ أو ضمن ورشات الاختصاص.



نحتّ اسمي في صخر "الطّريق الواعرة"

أمّا في خصوص تسمية سالم اللبّان نفسه بالهكواتي منذ نهاية تجربته "سنتي في الهيك" وما نتج عنها من ريادة في السّاحة الشّعرية العربية، فيرى الأستاذ المسرحي فتحي اللبان (وهو أخ الضّيف المحتفى به) أنّ "الهكواتي ليس هو سالم اللّبان كما عرفه على مدى حياته، بل هو مجرد جزء من سالم اللبان المبدع المتعدّد ذلك الذي في طبعه وتركيبته النّفسية مصارع "دنكوشوتيّ" لا بدّ له من خصم خياليّ يتجاوز به ذاته. وقال إنّه ليس مقتنعا بإمضاء سالم اللبّان كتبه باسم الهكواتي معربا عن "تخوّفه من أن يقضي الهكواتي على سالم اللّبان".

عن هذه النّقطة قال الهكواتي إنّه يتفهّم خوف أخيه على اسم العائلة، وإنّه شخصيّا فخور بأن يكون اسمه المدنيّ سالم اللبّان، وهو مرسوم على بطاقة تعريفه، وسيبقى إلى ما شاء الله له البقاء، وإن لم يكن هو من سمّى به نفسه. ولكنّ هذا الاسم المدني عطيّة عائلية من أبيه، "بينما اسم الهكواتي، يقول سالم اللبان، اسم نحتُّه في صخر "الطّريق الواعرة"، لأنّ مسيرتي في البحث عن جوهر الشّعر قادتني إلى منطقة لم أكن أتصوّر وجودها. فالفنّ ليس ما تبحث عنه ولكن ما تجده. وقد كان أهمّ حدث في مساري، عثوري على الهيك الذي صنعت منه لنفسي منهلا لإنشائي، ومشروعا لبقية حياتي، واسما يميّزني عن أفراد عائلتي، وذلك واجبي نحو مشروعي، وحقي المشروع في نفس الوقت."

إيقاع الهيك جوهر فلسفة الإيقاع في كل الفنون



وفي ردّ على ما أكدته عائشة الخضراوي من أنّ الهكواتي،  رغم تعدد مواهبه وغزارة انتاجه، "ليس معروفا على الساحة الأدبية، لأنّه لا يسعى كغيره للتّكالب على المنح الهزيلة التي ترصدها وزارة الثقافة"، تدخّل الأديب العراقي حكمت الحاج ليؤكّد أنّ الهكواتي، عكس ما ذهبت إله المقدِّمة، معروف في تونس وخارجها، على الأقلّ، بريادته في كتابة "الهايكو" بالعربية، وكذلك بورشاته على الانترنات. وقال حكمت الحاج إنّ المطلوب من أيّ شاعر يريد الفعل في المشهد الشّعري العربي أن لا يكتفي بالرّيادة لمجرد تسجيل الحضور، سائلا الهكواتي إن كان في كتابته الهايكو، أو "الهيك" كما يصرّ هو على تسميته في اللغة العربية، تقيّد بقواعد كتابة الهايكو الياباني بطقوسه ومواضيعه وشكله، وعمّا إذا كان لديه مشروع أدبيّ مخصص للهيك، مطالبا إيّاه بكتابة بيان تنظيري في الموضوع على غرار بيانات الرّواد من أمثال نازك الملائكة والسّياب وأدونيس وغيرهم.

وفي هذا الصّدد، كان جواب الهكواتي أنّه بالفعل نذر ما تبقّى من حياته لخدمة مشروع يتمثل في توطين الهيك في الأدب العربي. مشيرا إلى آخر صفحة من آخر فصوله الأربعة "ثابت على عهد الياسمين"، حيث تمّ التّنصيص على كتاب قادم، لم يصدر إلى حتّى الآن، لأنّه عبارة عن ورشة بحث ما تزال إلى اليوم مفتوحة. عنوان هذا الكتاب، "مدائن الهكواتي" وموضوعه توطين الهيك في الأدب العربي. وهو عمل تنظيريّ تطبيقيّ معادل لما يمكن أن يكون بيانا في الغرض.

وفي خصوص مقاربته لإنشاء الهيك، أكّد أن لا أحد يمكنه أن ينشئ "الهايكو" في شكله الياباني الموروث بما له من طقوس وشعائر وإحساس بالذوبان في الطّبيعة لا يستطيع تمثّله إلاّ من كان نتاج البيئة اليابانية والثقافة اليابانية.

"ولكن، يقول الهكواتي، وجدت من موقعي، وفي سياق عملية تثاقف واع، أنّ في هذه التّعبيرة اليابانية حسّا شعريا جديدا على ثقافتي العربية يمكن أن أستلهمه لإثراء إنشائي بلغتي، فأخذت منه بالأساس شكله المرتكز على تركيبته الثّلاثيّة، حيث تتكون قصيدة الهيك من ثلاثة أسطر أولها من خمسة مقاطع والثاني من سبعة والثالث عودة إلى المقاطع الخمسة.

ويضيف الهكواتي أنه لم يكتف باستلهام هذا الشكل في كتابته الشعرية بل حاول أن يطبّقه على بعض كتاباته الأخرى. وضرب على ذلك مثال روايته "بوصلة سيدي النّا..." التي تمّ تخطيطها على نمط الهيك انطلاقا من رسم تشكيليّ وضع قبل انطلاق الكتابة، فجاءت عناوين فصول الرّواية لتشكّل هيكة موزونة على إيقاع مقطعيّ عربيّ 5/7/5.

"ذلك، يضيف الهكواتي، أنّ فلسفة الشّكل الهيكي القائمة على ثلاثة أوقات، أولها سكون، وثانيها حركة حاسمة، وثالثها عود إلى السّكون، هي الجوهر في تشكيل الإيقاع الدّاخلي لأيّ فنّ من الفنون. فرغم قراءاتي المتعددة لنصوص المنظّرين في مجال الكتابة والإخراج المسرحيّ والسّينمائي، لم أجد أبلغ مثال على الإيقاع الدّرامي من فلسفة إيقاع الهيكة في بنائها الياباني. ولا أعتقد أنّ أحدا من المنشئين أو النّقّاد العرب سبقني إلى هذا الاكتشاف"

المستقبل للرّواية القصيرة



أمّا الأستاذ عبد المجيد يوسف فقد أضاء جانبا آخر من جوانب مسيرة الهكواتي وهو الكتابة السّردية من خلال كتابه "دستور الباذنجان"، مبينا أنّه وجد في هذا الإصدار بحثا عن تأصيل السّرد العربي الحديث في أصوله الموروثة مثل الحكاية والخبر والمقامة وغيرها من الأشكال التّقليدية، متسائلا عن مدى قصد الهكواتي المساهمة في إحياء هذه السّردية العربية القديمة.

و أكّد الهكواتي في ردّه على هذا التّساؤل أنّ "دستور الباذنجان  وروايات أخرى" هو الكتاب الوحيد الذي ألحّ في غلافه على جنس نصوصه وأنّ تعديد الأساليب المعتمدة واختلافها بين الرّوايات الأربع المكونة لهذه المجموعة، عملية واعية تستند بالفعل إلى الأشكال القديمة للسّرد العربي (المقامة في "دستور الباذنجان" - الخبر المنسوب لمصادره في "النّكرة ابن النّكرة") ولكنّها تنفتح أيضا على آفاق جديدة مثل تقنية السّرد السّينمائي في رواية "مواقد الجمر".

وبيّن الهكواتي أنّ عنوان كتابه "دستور الباذنجان وروايات أخرى" عنوان استفزازي يدعو إلى طرح سؤال الرّواية من جديد من حيث طولها في عالم بدأ عدد القرّاء فيه يتناقص بصفة ملحوظة، إذ لم يعد لهم من الوقت ما يكفي لقراءة نصوص تتجاوز عدد صفحاتها المئات. فقيمة الإنشاء لا تكمن في كميّة الكتابة أو سيولة القلم بل في إيصال الفكرة في أقلّ عدد ممكن من الكلمات. وقد جاء "دستور الباذنجان" ليشكّل مقترحا لجنس أدبي وسيط يمكن نعته بالرّواية القصيرة، وفيه نموذج لما ستكون عليه الرّواية في مستقبل العقود، فهي في طريقها إلى الاختزال، ولا نستغرب مستقبلا صدور روايات مستقلة لا يزيد عدد صفحاتها عن الخمسين.

انتصاري الجديد ثمرة خيبتي في "دورة النّوارس"

وتحدّث الشاعر والرّوائي لطفي الشّابي في مداخلته عن قصّة علاقته بالهكواتي الذي عرفه روائيا عند تقديمه قراءة لروايته "بوصلة سيدي النّا..." ثمّ عرفه ناشرا تعامل معه في دار الجسر الصّغير التي أصدرت روايته "المائت" في تقديم للهكواتي.



وأبرز الشّابي عمق التّقارب بينهما في الطّباع والميول، طارحا على صديقه سؤالين: أوّلهما عن وقع الخيبات التي مني بها خلال مسيرته، وهو الباحث دائما عن ارتياد المسالك غير المطروقة والمصرّ على "فتح الطّرق الواعرة" التي لم يسبقه إليها أحد. وضرب على ذلك مثال ما اعترف يه الهكواتي نفسه من "فشل" دورة "نوارس الرّوايات العشر" التي كان الشّابّي أحد عناصرها. وسأله، في هذا الخصوص، إن كان قد استخلص العبرة من هذه التّجربة، وفي أيّ اتّجاه؟ وعمّا إذا كان ما يزال مقتنعا بأنّ كتابة الرّواية صناعة يمكن تقنينها وتنظيمها؟ وما هو مقدار الموهبة والصّناعة في كتابة الرّواية؟

أمّا السؤال الثاني فكان عن تجربة الهكواتي الموسيقية وعن أشعاره التي لحّنها بنفسه وقدّمها مع مجموعته "الجسر الصغير" منذ سنة 2002. وهو سؤال عاب من خلاله لطفي الشابّي على صديقه ما اعتبره تقصيرا في التّعريف بتجربته تلك في خضمّ الابتذال الذي نال من واقع الأغنية التونسية اليوم.

عن "مجموعة الجسر الصّغير للبحوث الموسيقية والمشهدية" اكتفى الهكواتي بالقول إنّها كانت ضحيّة ظروف فرّقت أعضاءها الذين كان لا بد أن ينصرفوا لمتابعة أحلامهم الدّراسيّة والاجتماعيّة والمهنيّة بعيدا عن مكان إقامته. وأمّا عمّا إذا كانت العبرة التي استخلصها من فشل دورة "النّوارس" تدفعه في اتجاه مراجعة موقفه من قضية الصّناعة والموهبة، فقد أكّد الهكواتي أنّ العكس هو الصّحيح، مجدّدا إصراره الكامل على أنّ كلّ الوهن الذي تشكو منه غالبية النّصوص الرّوائية التّونسية، يتمثّل في وهم الموهبة وتمثّل أسطورة الوحي المنزّل. ما يجعل ممارسيّ هذا الفنّ ينصرفون عن تعلّم تقنيات الكتابة والأخذ بناصيتها، متصوّرين أنّ معرفتهم للّغة العربية كافية لكتابة نصّ روائيّ أو مسرحيّ سليم. هذا طبعا بالإضافة إلى تعاملهم العاطفيّ مع نصوصهم بحيث يمتنعون عن مراجعة هذه النّصوص في اتّجاه تعديلها وإعادة صياغتها، مكتفين بإصلاح أخطاء النّحو والرّسم. هذا إذا كانوا مجتهدين وأعادوا القراءة قبل دفع نصوصهم إلى النّاشر. كذلك يعود هذا الوهن في رأي الهكواتي إلى التّعامل مع الكتابة حسب النّزوات الشّخصيّة التي تبتعد بالكتّاب عن الانتظام في العمل، أي عن الحرفيّة، بما يجعل ممارستهم الكتابة ممارسة موسميّة، عرضيّة، هاوية بالمعنى السّلبي لهذه الكلمة.

وفي ما تبقّى من ردّه على لطفي الشّابّي، اعترف الهكواتي بأنّه بالفعل مسكون بالتجديد لا ينفكّ يبحث عن كلّ ما لم يسبقه إليه أحد. إذ كان أوّل تونسي يحدث موقع أنترنت شخصي ذا صبغة أدبية ثقافية (الجسر الصّغير) وأوّل من فرض الإحتفاء في تونس بالكتاب الرقمي (ثلاثيته "دفاتر الرّحيل" 2003)، وأوّل من خاض تجربة الكتابة التّحدى العلني تحت ضغط الزّمن شعرا في "سنتي في الهيك" التي كانت حصيلتها "فصولي الأربعة" ثم سردا في "سنتي على جناح السّرد" التي أنتجت "عنقود حكايا" و"بوصلة سيدي النّا...".

أمّا عن الخيبات التي يمنى بها من حين لآخر، فأكد أنّها من قواعد اللّعبة. وقال إنّه انسان لا يخشى السّقوط لأنّه يعشق اللحظة التي فيها ينهض من كبوته، كالفينيق من رماده، ولأنّ كلّ خيبة هي ثمرة تجربة جديدة تصلّب عوده وتعلّمه درسا جديدا في الحياة. وأضاف أنّه لا يتحرّج من إشهار سقوطه صراحة أمام الجميع. ونصّه المعلن عن فشل تجربته مع دورة "نوارس الرّوايات العشر" أحسن مثال لقبوله بقواعد اللّعبة. ولكنّ وجود هذا النّصّ سيؤكّد لمن يحتاج تأكيدا، أن فشل هذه التّجربة كان دافعا له لتحقيق نجاح أكبر لعلّه أكبر انتصاراته على نفسه على الإطلاق.



وهنا أعلن الهكواتي عن آخر التّحديات التي هو اليوم بصدد خوضها لتحقيق سبق أدبيّ جديد لم تشهد السّاحة الشعرية العربية مثله. ويتمثل هذا التحدّي في حوار شعري متواصل منذ ستة أشهر بينه وبين العميد الشاعر الكبير نور الدّين صمّود، بلغ نتاجه إلى حدّ اليوم أكثر من خمسين قصيدة من كلّ واحد منهما، وستضمّ هذه الحصيلة دفّتا أوّل ديوان مشترك بين شاعرين في تاريخ الأدب العربي.

وقال إنّ في هذا الإصدار تجربة فريدة تنطلق من "الهيك" نحو القصيدة العمودية إلى أن تعود في ختام الرّحلة إلى الهيك من جديد، ولكن في شكل عربي خالص وبإيقاع جديد يمزج بين موروث الأوزان الخليلية ومُبْتَكَرِ الإيقاع المقطعي الجديد. وتتمثل اللّعبة في اشتغال الشّاعر العميد نور الدين صمّود على مختارات ينتقيها من الهيكات المنشورة في "فصولي الأربعة" للهكواتي، فيوسّع شعرها المكثّف في قصيدة موزونة على البحور الخليليّة ليردّ عليه الهكواتي بقصيدة خليليّة معارضة... وهكذا.



واستغلّ الهكواتي هذه المناسبة لتعديد خصال الشّاعر الكبير نور الدّين صمّود وشكره على ما حباه به من صداقة أدبيّة نادرة الصّفاء في ساحة شعريّة تونسية ليس الصّفاء أهم مميزاتها. وذلك أوّلا بقبوله الدّخول في هذه اللّعبة من أساسها، ثمّ ببناء علاقة شعريّة حميمة كانت علاقة شيخ بمريده، وغنم منها الهكواتي كل ما جادت به تجربة العميد نور الدّين صمّود وثقافته الواسعة.

وختم الهكواتي اللّقاء بقراءة آخر قصائده المندرجة ضمن هذا التّحدّي الجديد والتي تعطي فكرة عن هذه التجربة وتكرّم الشّاعر العميد بمعارضة لقصيدته "في توديع السّنة المنصرمة" بقصيدة عنوانها "2016".

لطيفة اللبّان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني