نافلة ذهب تقرأ دستور الباذنجان



قراءة في
"دستور الباذنجان وروايات أخرى"
بقلم الأديبة نافلة ذهب


هذا نص المداخلة التي قدمتها الاديبة نافلة ذهب في الامسية الادبية التي أقيمت في المكتبة المعلوماتية بأريانة يوم السبت 23 أفريل 2016 احتفاء بصدور مجموعة الهكواتي الروائية "دستور الباذنجان" وديوانه "طفل المائدتين".




سالم اللبّان وكنيته الفنية الهكواتي لقب أطلقه عليه أعضاء ورشة  " الكتابة بحرّية"  . مارس الروائي سالم اللبّان الرسم والموسيقى والتمثيل والإخراج ركحيا و تلفزيا . أنشأ   "مسرح الفينيق" ومجموعة الجسرالصغير  للبحوث الموسيقية والمشهدية من أهم تجاربه الأدبية إلى جانب " سنتي في الهيك" التي. أنتجت رباعية " فصولي الأربعة" وسنتي على جناح السرد" التي صدر منها ورقيا  مجموع نصوص سردية  " عنقود حكايا" ورواية  "بوصلة سيدي النا." نشر أول كتاب رقمي في 2000 (ثلاثية "دفاتر الرحيل")  و حصل بفضل هذا النشر الرقمي على عضوية اتحاد الكتاب التونسيين سنة 2003 .

للهكواتي كذلك  دواوين شعرية من  " قصائد ونيّف ",  " غدا ...موعد الياسمين ", و " أجراس القارعة" و "طفل المائدتين".

إذ أحاول أن ألج وإياكم عالم سالم اللبّان السّردي وأنا بصدد اكتشاف  هذه " الروايات" كما يحلو لمنشئها تسميتها أقف أمام دالّتين: الزمان والمكان. و يسند ثيمة التحكم في  الزمان والمكان التجريب لدى كاتبنا الذي  ينعت سروده  بالروايات قاصدا  ربما ما روي من قصص...

زمن الحكايات  البعيد

يحتوي  الكتاب على  أربع روايات وهي:    دستور الباذنجان, عن النكرة بن   النكرة ,المفتاح , مواقد الجمر وملحق بعنوان الفاتحة.
يعيش أبطال  كتاب  دستور الباذنجان زمن السرد, الذي يمكن أن يكون غارقا في القدم ينتمي إلى  زمن السلاطين والقصور والجواري والقيان بجمال أيامه وأحلكها  كما نرى ذلك  في   قصتي '' دستور الباذنجان '' و'' عن النكرة بن النكرة''.بينما  ينتمي  زمن  قصتي " المفتاح" و" مواقد الجمر" إلى زمننا الحاضر .


و يتعلّق زمن الحكاية في القصة الأولى بلحظة  وفود الحكّاء  المدعو نعناع إلى القصر لتقديم مشروعه   المسمى بعهد الباذنجان إلى الملك بديع الزمان. لا يذكر الكاتب الزمن بصفة دقيقة غير أنه يبدو بعيدا غابرا ونشعر بذلك من خلال استعمال الكاتب لفقرة من لازمة الحكاية " كان يا ما كان" التي  تضعنا مباشرة في زمن الخرافة.  ثم يعود الكاتب إلى زمن القصّ أي  الزمن الحاضر كأن يقول "وما إن التأم  الجمع و بدأت مراسم الاحتفاء, حتى دارت مباراة خطابة نقلتها الإذاعات على الهواء" فإذا نحن في زمن الإذاعات والتلفزات.   وقد  استعمل الكاتب التورية رامزا إلى زمننا الحاضر  ببوليسه المترصّد ومُخبريه المنتشرين في كل مكان ودسائسه السياسية ونشرات الأخبار التلفزية التي تخفي أكثر مما تظهر.  

يسرد الراوي في قصّة  نعناع الحكاّء أو الفداوي الذي اختار موضوع الدسائس في القصور وأقحمه  في خرافة تسرد قصة  وصفة سرية لأُكلة عمادها حبات الباذنجان التي  تمنح السلطان - متى أكلها - قدرة على النّفاذ إلى ما يضمره المحيطون به عنونها ب " خرافة عهد الباذنجان".

ثم يعرّج الراوي على عدة مظاهر سلبية كالانتهازية  و"النفخ في مشاريع من صنع الخيال" وإ ذ يصف الحكّاء نعناع يقول "كل هذا ونعناع ...مستلذ ما يتهاطل عليه من مديح, ملازم ما تعهّد به من صمت ليتجنّب سوء المآل" وكذلك  من  إخفاء  أصحاب  المشاريع وجعلها ملك من يخفيها زورا وبهتانا كل ذلك في غفلة من السلطان وبقيادة الوزير....سبحان الله ما أقرب هذا الزمن الغابر بزمننا.

ويتعلق زمن الحكاية في القصّة الثانية "عن النكرة بن النكرة" بزمن الخرافة حيث يتعرّض الكاتب  إلى حكاية شعبية ذكر باحث أنه قام بمحاضرة في شأنها وإثر  ذلك علم بوجود حكاية أخرى  تفيد بحدوث وقائع أخرى  جرت لمشبوه كان يتطفل على مجالس القص ويدوّن ما يقع. وتفيد هذه الحادثة أن المدوّن طعن حتى الموت حتى لا يروي  ما دوّنه. وتأتي  هذه الحكاية كتتمّة لحكاية  المدوّنة التي مات من أجلها المدوّن وتحاول كشف ما فيها, إذ يلج  الراوي الثاني مغامرة عجائبية تحيلنا إلى  أجواء الخرافة مباشرة فإذا نحن أمام تجربة  رمّالة تتعامل بالسحر وتقوم بتأويل خطّ الرمل ...

يتميز أسلوب القصّة –الرواية التي نحن بصددها بالأسلوب الاستقصائي والبوليسي فيفعل فينا التشويق مفعوله العجيب  السحري  كما تلج بنا  الخرافة عالم  الدهشة والانجذاب والانسياق المحبّب وراء اللامعقول كما يُبرز تواتر مستويات السرد تواتر الرواة فتبدو الحقيقة بين منزلتين إنه البحث عن الحقيقة وعدم انسياق الكاتب وراء أسلوب الإقرار بوقوع الحدث وإنما يوحي بالبحث. وتلك  لعمري  من أدوات الكاتب الملتزم بفنّه والملتزم بالنقد الاجتماعي في آن.

كما يُظهر  تعدد الرؤى وتشابكها و مدى تداخل الخيال والحقيقة في مجالات الحياة وتعدّد أوجه  تناول الحقيقة عند الأفراد. ففي "دستور الباذنجان" يصف الراوي  أو الكاتب الحياة في الحاضرة هكذا "ما كادت الشمس تطلع على الحاضرة حتى استبدّ النوم بعيون سكّانها وسكّان كل القرى والمدن, البعيدة منها والمجاورة. ومرّت الساعات وتتالت الليالي والأيام. وما من مستيقظ إلا عائد إلى فراشه لينام. إلا ما كان من أمر المؤرّخ مخلص ابن نزيه. فقد بلغت إلى علمه عن مشرّع المشرّعين نعناع، معلومات تثبت أن مشروعه خداع في خداع...."

ويتبادر إلى ذهني هذا التساؤل: ألا  تشبه حقيقة مجتمعنا في إحدى الفترات السابقة حياة الخرافة أو لنقل إن الخرافة تشبه حياتنا؟...

الزمان هنا يتولّد عن أزمنة تؤدّي ما يختمر في خيال الكاتب ويثري القصّة فتوحي أكثر مما تقول مبتعدة عن المباشرة واللغة التقريرية المملّة.

مكان الحكايات الغرائبي


يبدو المكان في حكايتي: "دستور الباذنجان" و"عن النّكرة بن النّكرة" أصيل الخرافة فبينما تدور أحداث الحكاية الأولى في أحد القصور و في بلاد يحكمها السلطان بديع الزمان بين شؤون البلاد في الصباح، فتفتح في أبواب القصر للشعب المطالب بحقوقه، فيتزاحم أهل البلد هناك وتكثر الأقاويل والمناوشات بين الزائرين المتلهّفين على الاستماع والإبلاغ بما لديهم من أخبار والسهرات الزاهية في المساء. فإذا نحن في مكان  الخرافة بامتياز. كذلك مكان  رواية "عن النكرة بن النكرة" الذي يقول عنه الرّاوي ما يلي

"...تبدأ ( أي الحكاية وهي حكاية الشاة والقطيع) دائما بما اصطلحتُ على تسميته "فاتحة القول" وهي "كان يا ما كان" وأظن أن هذا يطابق تماما ما كان يقال في قديم الزمان وسالف العصر والأوان..."  ص.85

ويذهب بنا الراوي  إلى أجواء الأساطير وعالم الحيوان المتكلّم (الشياه لم تكن لتنظر إلا إلى الأمام ولا لتهتدي إلا بخطى سيد الأكباش الأقرن المقدام)  واستنطاق خطّ الرّمل من قبل الرمّالة ومتابعة خط يبدو  سحريا للوصول إلى أماكن غرائبية. وفي  ص98 حيث يقول "وأنظر إلى الأفق فلا أرى غير كثبان الرّمال لا ينبت عليها أخضر ولا يابس" ثم في ص,_.100  نقرا ما يلي  

" قال: رأيت الرمّالة  تنبجس من خلف كثيب. فتشير على البغلة أن تتبعها, ثم تغوص في الرّمل والبغلة تنقاد لها, وتغوص وراءها, حتى غطّاني الرّمل تماما. ووجدتني والبغلة والرمّالة, نخترق طبقات سميكة من الظلمة اللّزجة, إلى أن رسبنا في أعمق أعماق الأرض, حيث يقوم ما يشبه الحمّام, تنفث جدرانه العتيقة بخورا عطرا,وبخارا كثيفا..."

يبدو المكان في هاتين القصّتين عجائبيا يحيلنا إلى الحكايات والأساطير ويخلق جوا خياليا سحريا  لا نجده إلا في الحكايات والخرافات.

وهنا أريد أن أشيد بجمال لغة السّرد فهي لغة شعرية تحيلنا إلى رؤى عديدة وسحرية تشرّك القارءي في استنطاقها ثم تبنّيها.

الزمن القريب في الحكايات

تدخل  قصة "المفتاح" وقصة "مواقد الجمر" في هذه الخانة. حيث نلج بفضلها عالم القصّة  ذات الأحداث المعاصرة. وتتعرّض أحداث قصّة "المفتاح" إلى حادثة ضياع مفتاح الشقة من كاتب  شاب ثمل   كان ساهرا مع صديقه في أحد مطاعم العاصمة يتحاوران في هموم  الكتابة. يأخذه دوار فيسقط على الأرض أمام شقته. ينام هناك فتأتي امرأة  تساعده على دخول الشقة والنوم. تعتني المرأة به وتغسل ثيابه و تعلمه  أنها مومس. يُعجب بها, لأنها فعلت معه الخير لوجه الله. فيفكر بإلحاح  في الزواج  بها .و يترقب عودتها. لكن لا يتم ذلك وتنتهي القصة بعد أن تخبره  في ظرف تركته له أثناء غيابه, أنها تغفر له الإهانة التي صدرت عنه البارحة.

زمن القصة هو الحاضر وهو زمن متشّظ  يبدو غير كاف للظروف الحياتية للشخصية. يمضي  الوقت  حثيثا تينع  فيه العلاقات لتنقطع سريعا من بعد  وكأن الوقت لا يسمح بذلك. فالعلاقة مع الناشر انقطعت وبالتالي ليس هناك مجال لإنهاء  الرواية ثم انتهت العلاقة مع المومس بحكم تنافرها ربما والزمن أكله السكر والنوم وحالة الإغماء المنجرّة عن السكر والتدخين المتواصل. زمن القصة تآكل  فالشخصية الرئيسة  لم   تعد تتحكم  في الوقت الهارب بها.  ينام الكاتب ليلا ونهارا يحلم بمسلسل حياتي كامل يستفيق إثره يشرب القهوة ويدخن السجائر ثم يعود إلى النوم.

قصّة " مواقد الجمر":  يتفرّع   السرد هنا  إلى خمسة أزمنة.

الزمن الأول إذ تتوقف عقارب الساعة يقول الراوي: ذات لهب تراكم دونه جليد  الذاكرة, والفصل رتيب كئيب. والوقت هو الموقد الأول. في هذا الموقد نتعرّف على مطارد الأحلام يتمثل عمله في مطاردة الأحلام ليكتب ( أو الراوي) والمرأة التي لم يكن  الراوي يعرفها فتخبره أنها أتت تلبية لدعوته. ثم تخبره عن هويتها فتقول: أنا المومس يا مطارد الأحلام. وتقول له كذلك: "أصبحت تخلط في تقمّصك أدوارك بين الممثّل والشخصية.؟"

نتساءل هل نحن أمام مسرحية؟ فالراوي الكاتب هو في نفس الوقت الممثل وكذلك المخرج. كأن تعدّد الأدوار يحيلنا إلى تعدّد الرواة وبالتالي إلى  تعدّد أساليب القصّ.

الزمن الثاني نجده في الموقد الثاني: قبيل انطفاء مصابيح البلدية بشارع الحبيب بورقيبة, وإبّان ارتداء نادل المقهى جمّازته الحمراء إيذانا باستعداده للشروع في استقبال الزبائن. يبقى يتفاعل أو يحاور شخوص الرواية التي أهمل مواصلة كتابتها. أي مع تباشير الصباح الجديد. وهنا يتقمّص الكاتب دور المخرج وكاتب المسرحية في آن.  يقدّم الشخصيات التي بدأت في الظهور على ركح الورقة.

الزمن الثالث في الموقد الثالث: بعد مرور بضع أيام على فراغ مطارد الأحلام من إتلاف جبل من الأوهام والصور المتردّدة, واختزال ما نجا من حريقه في علبة واحدة زرقاء اللّون. عاجلة الشأن.
الزمن الرابع في الموقد الرابع: الزمان ساعتان بعد إضاءة مصابيح البلدية بشارع الحبيب بورقيبة, وإبان خلع نادل الحانة جمازته الحمراء, كما لو كان يستعرض لياقته البدنية لحث آخر زبائنه على العودة إلى بيوتهم. إذا الزمن يبدو متأخّرا.

الزمن الخامس في الموقد الخامس: ذات لهب أتى على جليد الذّاكرة المتكلّسة. الفصل يخرج الحيّ من الميّت. والساعة بعث جديد. يختلط هنا زمن السرد بزمن كتابة الرواية فنتعقّب أثر الكاتب–الرّاوي أو مطارد الأحلام الذي هو بصدد تعقّب الأحداث التي تعيشها شخوصه ويستدعي للذاكرة المومس التي اعترضناها معه في قصّة " المفتاح". تهاتفه زوجته لأنها في حالة مخاض فيقول لها إنه أيضا في حالة مخاض من نوع ثان, أي مخاض الكتابة.

يبدو الزمن هنا  وكأنه لا يخضع إلى منطق معيّن وإنما هو ركض وراء الصور والتخيّلات التي يمرّ بها الكاتب وهو في حالة كتابة وخلق.
الزمن في هاتين القصّتين يأخذ مجرى تدفق السرد في  ذهن الكاتب حيث تراه يعود إلى أحداث مضت ويتخيّل أحداثا أخرى ستقع. صورة تقاطع الزمن لدى الكاتب بتقاطع الزمن الحقيقي مع زمن الرواية التي هو بصددها. الزمن هنا هو زمن الكاتب بامتياز وزمن الرواية لا يعرف التوقف بل يتمطّط.

المكان

الأمكنة التي يصفها الكاتب–الراوي تبدو مغلقة في قصّتي المفتاح ومواقد الجمر. تبدو أمكنة في خيال الكاتب. فالكاتب يكون تارة في شارع الحبيب بورقيبة مع صديقه يذهبان إلى المطعم ثم أمام شقته يبحث  عن المفتاح وهو في الحقيقة  يبحث عن مفتاح للقصة، ثم في شقته وعندما يستفيق يذهب إلى المقهى.. وفي قصة "مواقد الجمر" يتنقل الكاتب بين خمس أمكنة بين مكتبه في مشغل جديد وبين المقهى الذي اعتاد الكتابة فيه مرّة في الليل ومرة في الفجر حيث كان أول زبون ليعود في المرّة الخامسة إلى مكتبه فيجد شخصية المومس في انتظاره... لكن هذه الأمكنة منفتحة على أماكن  الرواية  وتنقّل شخوصها لتزيدها إثراء. وهكذا تتولّد الأمكنة من المكان الواحد.


"دستور  الباذنجان" للروائي سالم اللبّان ينصهر في الكتابة الحداثية. يحاول الكاتب في هذه الروايات التلاعب بالزمن قصد ثرائه وخلق زمن للرواية متفرّد يمكن ان توجد في عدّة أزمان لا زمن واحد. كما يخلق الرواة الواحد بعد الآخر باحثا عن حقيقة ما، علما منه أن لا أحد يقبض على هذه الحقيقة فهو لا يتملّك شخوص الرواية وإنما يتركها في حرية لأن الواقع غير ذلك. ينطلق الكاتب من سرد الحكايات كما رأينا في قصّتي "دستور الباذنجان" و "عن النكرة بن النكرة" مع استحضار بعض أساليب الحكي من "لازمة" واستقطاب شخصيات خيالية وتعداد الروايات  سعيا إلى يجاد طرق  جديدة للقص, وذلك في إطار التجريب الذي رامه الكاتب. مستعملا  الأسلوب الرمزي الذي يعطي للقصّة آفاقا أرحب. واصفا أماكن سحرية جميلة ومعتّقة. هذا و رأينا كيف صاغ حكايته الأولى سجعا مستحضرا في ذاكرة القارءي مقامات بديع الزمان. وكنت وأنا  أقرأ القصّة أتساءل  هل أراد الكاتب استحضار إسم  بديع الزمان الهمذاني في قصّة  "دستور الباذنجان"  في حكاية تشبه المقامة في صياغتها , وبديع الزمان  ملك السرد بامتياز؟ 
من أدوات الروائي سالم اللبّان كذلك الجملة الشعرية يصوغ بها أجمل الصور لوصف وضع ما أو فترة حياتية ما كما يقول في ص. 100 و 101:من قصة " النكرة بن النكرة"

"رأيت الرّمّالة تنبجس من خلف كثيب، فتشير على البغلة أن تتبعها، ثمّ تغوص في الرّمل والبغلة تنقاد لها، وتغوص وراءها، حتّى غطّاني الرّمل تماما.  ووجدتني والبغلة والرّمّالة، نختـرق طبقات سميكة من الظّلمة اللّزجة، إلى أن رسبنا في أعمق أعماق الأرض، حيث يقوم ما يشبه الحمّام، تنفث جدرانه العتيقة بخورا عطرا، وبخارا كثيفا.
          حتّى إذا اتّضحت الرّؤية،  وعدت إلى نفسـي ممّا نابني من ضائقة الغوص، هممت بالكلام  فسارعت الرّمّالة تطبق على شفـتيّ بلمسة رقيقة من سبّابتها. فنظرت فإذا هي استوت صبـيّة طازجة ناضجة، فمدّدتني على دكّانة، وأخذت تخلع عنيّ ثياب السّفر، فتسحبها سحبا ناعما، وتلقي بها في مرجل ماؤه يغلي،  ومن تحته النّار ترتفع ألسنة متراقصة، ما رأيت قطّ مثل ألوانها في نار أوقدتها. ثمّ طفقت تدلـق الماء على جسدي، فينزّ منّي سيل من الأدران كحبر متخثّر زئبقيّ اللّون واللّزاجة، ينساب من حولي على الدّكّانة،  ثمّ  ينقاد إلى ساقـية تجري نحو مصبّ لها في عمق الظّلمة. ووجدتني كلّما انهمر عليّ الماء، يخـيّل إليّ أنّني أغمغم بكلمة ممّا حفظته من دفتر نديمي، وأنّ الرّمّالة تستعيد كلّ كلمة مرارا، فأعيد، إلى أن أفرغت كامل وطابي. 
         وكنت أشعـر من ذلك كلّه بسعادة، تسـري مع دمي في عروقي،  وتخترق جلدي، حتّى تنبع من مسامّي حبيبات شفّافة، لها ريح المسك. فأحسّني أتخفّف من وزني، وأحلّق في فضاء الحمّام تحليقا.
         لم أدر كم مرّ من الوقت وأنا على ذلك الحال من انعدام الوزن والهموم. حتّى نظرت إلى غاسلتي، فوجدتها  قد استعادت كامل سنّها، وتسربلت بحلّة من سالف وقارها، وقالت :
         "الآن وقد تطهّرت، فإنّك عارف بما عليك أن تفعل بدفـتر نديمك المشبوه بن المشبوه. فلتعلم فقط  أنّ الطّفل هو فـلان بن فلان، وأنّه يسكن في البيت الفلانيّ من الزّقاق الفـلانيّ من المدينة. ولكن إيّاك أن تنطق اسمه أو تعرّف به أحدا."

كما يضفي الكاتب على القصص الموالية و التي تتميّز بالواقعية مسحة حداثية تتمثل في استحضار أدوات أخرى كالمسرح أنظر ص.167 التي يقدّم فيها الكاتب  ما يحتوي عليه الركح كما في المسرحيات فيضع  المسرحية-القصّة  في إطارها الزماني والمكاني يوما بيوم حتى النهاية. المكان: مكتب محترم جدا... ثم يقول : الزمان : ذات لهب تراكم دونه جليد الذاكرة....

كما أنه يستحضر  الشخصيات محاورا إياها  كما فعل بعض كتاب أمريكيا اللّاتينية المعاصرين في دعوة إلى تشريك القاريء في العملية الإبداعية ورفع ذلك الغموض الذي يجعل الكاتب في إنزواء غير محبّب. لكن في نفس الوقت يترك مجالا للبس وللحيرة.
نرى ذلك في القصّة الأخيرة ص. 201 حيث يقول" ...يعلّق مطارد الأحلام السمّاعة بسرعة. ثم يفتح الملفّ الوردي. فتفهم المومس ما يريد منها وتقفز لتنحشر بين أوراقه. يغلق مطارد الأحلام الملفّ فإذا بين يديه ملفّين أحدهما وردي كتب عليه "المفتاح" والثاني في لون "مواقد الجمر".

هكذا ينهي سالم اللبّان قصصه الروايات بعد أن سافر بنا عبر الأزمان والأمكنة مدّة من الزمن ألا وهو زمن القراءة والتخيّل ... فشكرا له على هذا الانفتاح.


نافلة ذهب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني