تكريما لعميد المسرحيين التونسيين محمد القبودي

تكريما لعميد المسرحيين التونسيين محمد القبودي
قف للممثل
كانت أمسية "مجالس الهكواتي" هذه الجمعة (5 جانفي 2018) حدثا استثنائيا بكل المقاييس. فقد كان رواد المجلس على موعد مع عرض متعدد الفنون يحمل عنوان "قف للممثل..."، أعدّه فرع المنستير لجمعية "معابر" المغاربيّة المتوسطيّة للفنون والآداب والتّثاقف، بالشّراكة مع فضاء روسبينا للمسرح، هذا الفضاء الثّقافي الخاصّ الذي كانت لأصحابه جرأة بعثه في حيّ شعبيّ هو حيّ البساتين.
محور العرض كان الفنان الممثل محمد المازري القبودي، وكان ضيفا الشّرف الفنان المسرحي الأستاذ فتحي اللبّان، الذي تولى تقديم مسيرة المحتفى به، والدّكتور الموسيقار عازف الآلطو الأول مراد الفريني الذي حاوره الهكواتي عن مسيرته الفنّية والأكاديمية، والذي قدّم بالمناسبة ثلاث مقطوعات من الموسيقى الكلاسيكية المكتوبة خصّيصا لآلة الآلطو، يصاحبه عازف الكمان الدّكتور محمد أمين القاسمي. وكان من الجمهور سماع يرقى إلى مستوى هذه المعزوفات التي أضفت على المجلس مناخا فنّيا وقف معه الحضور على أهلية فضاء روسبينا لاحتضان مثل هذه العروض الحميميّة ومثل هذه الموسيقى الرّاقية.



كان ممثلنا القدير، عميد المسرحيين التونسيين (92 سنة ونصف) حاضرا بكل ما وهبه الله من صفاء ذهن وصحة وعافية وصوت، رغم فعل الزّمن، صدّاح ذي وقع حسن كلاما وغناء (وحقك أنت المنى والطلب، لمن أراد معرفة ما غنّى العميد للمحتفين به)، وبما قدمه من إجابات شافية عن أسئلة الهكواتي وما قام به من تدخلات رشيقة مرحة حينا محملة بالحنين والشجن وبعض دموع التأثر لفقد الأحبة (المرحوم محمد سلامة خاصة) أحيانا أخرى.


كانت الشّاشة تبثّ ديابوراما يلخص بالصّورة النّادرة والإرشادات المقتضبة مسيرة رجل اخترق القرن العشرين وامتدت مسيرته الفنّية من الخمسينات إلى أواخر الثّمانينات، بين جمعية أنصار المسرح بالعاصمة، التي كانت (مع فرقة مدينة تونس والمسرح الشعبي) إحدى أهم محركات المشهد المسرحي التونسي، وكان كاتبها الهادي القرجي ومخرجها حمادي الدرّاجي، وفرقة اللجنة الثقافية الجهوية بسوسة التي تداول عليها المخرجون محمد الزرقاطي ونور الدين القصباوي ومحمد صالح السماتي، وكانت أول نواة محترفة بالساحل، ولكنها لم تعمر طويلا، إذ انطفأت حتى جاءت تجربة الفرق القارة (التي انطفأت بدورها، ولكن هذه قضية أخرى)، ثمّ جمعية البعث المسرحي بالمنستير في سنوات عزها بين أوائل السبعينات وبداية التسعينات تحت إدارة الهاشمي الأكحل ثم بلحسن خذر، ثم في مسيرة طويلة مع المرحوم محمد سلامة.



انطلق العرض ببعض التأخير في انتظار جمهور لم يتخلّف عن الموعد رغم وجود حدث فنّي هام كان يدور في المركّب الثقافي على بعد ثلاثمائة متر (بالمناسبة نتمنى مزيدا من النّجاح والتوفيق لصديقنا الفنان سمير الفرجاني). فلم يكد عرض مجالس الهكواتي ينطلق حتى امتلأت قاعة روسبينا بروّادها، ودعت منشطة المجلس الحاضرين إلى الوقوف للعميد:

يقول أحمد شوقي، قالت :
قم للمعلّم وفّه التبجيلا * كاد المعلّم أن يكون رسولا
ويقول الهكواتي بناء على هذا المطلع :
قم للمعلّم وفّه التّبجيلا * كاد المعلّم أن يكون رسولا
وكذا الممثل، إنّه في فنّه * صِنْوُ المعلّمِ منهجا وأصولا
فقفوا لقبّودي نؤدّي حقّه * فهو الذي في الفنّ كان نبيلا
وهو الذي للنّشئ مثّل قدوة * قد ألهمتنا عشقنا التّمثيلا
هُبّوا رجاء واقفين تواضعا * لنقول شكرا وارفا وجزيلا

            وهبّ الجميع وقوفا لتكريم العميد، فكانت كلمة رئيس جمعية معابر معبرة عن تقدير الجمعية لمسيرة الممثل القدير محمد المازري القبودي، ولكنه عبّر للعميد في نفس الوقت عن عرفان كلّ من تعاطى المسرح بمدينة المنستير بالذات، بل عن تقدير كل مسرحيي جهة الساحل قاطبة، من حضر منهم ومن غاب. المهم أن عائلة المسرح المنستيري كانت هناك حاضرة بأهم رموزها على الإطلاق وأكثرهم إشعاعا وتأثيرا فعليا في المشهد المسرحي.


حتى الفنانة الممثلة فطيمة الغربي، أمّ المسرحيين بالجهة، كانت هناك أيضا. كانت في القاعة حاضرة مع الجمهور فإذا هي محور مشهد محبوك مسرحيّا يفاجئها بدعوتها إلى الرّكح لتحية الحضور الذي لم يكن يعلم بأنّ فطيمة ليست سوى فتحية الغربي التي كانت صورتها تعبُر الدّيابوراما مع صور القبودي والتي نصت على اسمها معلقة مسرحية "شمس النهار"، إذ قامت فيها بدور البطولة، في ذلك العهد، ضمن أول فرقة مسرحية محترفة في الساحل التّونسي، عن نص لتوفيق الحكيم وفي اخراج للمرحوم محمد الزرقاطي، ورفقة العميد محمد القبودي الذي أدى في ذلك العرض دور تابع الأمير.

دخلت فطيمة الغربي الحلبة فإذا الدعوة تنطلق في فضاء القاعة أن هبوا للوقوف من جديد، تكريما لأول امرأة احترفت المسرح في جهة الساحل في وقت كان فيه المجتمع التونسي لا يقبل مجرد تعاطيها الفن ولو من باب الهواية.
ولأنّ الصّدفة شاءت أن يوافق يوم 5 جانفي يوم ميلاد فطيمة الغربي فقد أضاف تواطؤ مراد الفريني مع الهكواتي نكهة خاصة على المشهد حيث صدحت الموسيقى فجأة وغنت القاعة مع الهكواتي على أنغام "عيد ميلاد سعيد":
كل عام وانت بخير * يا فطيمة يا وجه الخير
كل عام وانت أمّنا * يا نوارة  المستير

ولا تسألوا عندها عن دموع التأثّر والفرح وهي تسيل إذ هبّ من القاعة كلّ أبنائها المسرحيين الذين عرفوها خاصة في إذاعة المنستير، وهم بين معانق ومقبّل ومهنّئ، وأُفرغ لها مكان في صدارة المجلس إلى جوار "عشيرها المسرحي" العميد محمد القبّودي، ومنه شاهدت فصلا ملخصا من مسرحية "شمس النهار" قامت فيه بدورها (شمس النهار) منسقة معابر المنستير لطيفة اللبان رفقة الفنانين خالد شنان وفراس اللبان.



وقد كان طبيعيا، في عرض يكرم عميد المسرحيين أن يكون المسرح أكثر حضورا من بقية الفنون وذلك منذ المنطلق. كان حضوره في شكل قراءات نصّية انطلقت بتقمّص الفنان رضا عزيز دور "سالم" في مسرحية نهاية كاراكوز في مقطع أعاد صياغته الهكواتي، وقد كان العميد محمد القبّودي قام بهذا الدور المأخوذ من قصّة لأنطون تشيكوف في إخراج للمرحوم محمد سلامة.


كما قدم الفنانون رضا بن حسن ورضا عزيز وسالم بتبوت مشهدا من مسرحية توفيق الحكيم "براكسا جورا" التي قام فيها العميد محمد القبودي بدور الفيلسوف أبقراط في اخراج لمحمد سلامة، ثمّ أدّى كل من الفنانين خالد شنان وسالم بتبوت ورضا بن حسن في النهاية مشهدا من المسرحية الهزلية "ما تخرج الصّدقة" التي قام فيها القبودي بدور الوزير في اخراج للمرحوم محمد سلامة.


وتضمّن العرض كذلك مشهدا من شريط فيديو أعده الطلبة بتأطير من الأستاذ الفنان خالد شنان وقام فيه العميد محمد القبودي بدور الراوي تجسيدا لإحدى قصص عبد العزيز العروي، ومسمعا إذاعيّا مقتطفا من برنامج للفنان رضا عزيّز، تحدّث فيه العميد عن بداياته في المسرح وغنى فيه مقاطع من المسرحيّة الأوبريت "سلطان المهازل".


نهاية العرض كانت عائلية بأتم ما في الكلمة من معنى إذ بقي المسرحيون يقدمون شهاداتهم ويتجاذبون الحديث مع عميدهم مذكرين إياه ببعض الطرائف التي أضفت على الفضاء جوا من المرح الحميمي، ويلتقطون الصور التذكارية، بعيدا عن كل المعكرات والحسابات الضّيقة.


"قف للممثّل..." عرض من إعداد ودراماتورجيا وإخراج الهكواتي، الذي ألقى قصيدة كتبها خصيا لهذا المجلس تحمل نفس عنوان العرض، هذا نصّها :
قف للممثّل
الإهداء : إلى عميدِنا الذي من سيرته تعلّمنا أنّ فنّ الممثّل حال يولد معه ولا ينتهي قبله، إلى الممثّل الفنان محمّد القبّودي

صهٍ يا رفيقي صهٍ
وانتبه
ولتعشْ ما سيحصلْ
سنقضي معا ساعةً عجبا
لم يصفها يراع ولا قال عنها حكيم
كلاما مؤصَّلْ
سيشتعل الرّكح بعد قليل
بنار مقدّسة
نورها من عصارة روح فتى
يمتطي صهوة الحلم
يقتات من فاتنات الرّؤى
ويخوض حروبا بمفرده ضدّ جيش بلا عدد
شاهرا جسدا مثل غصن الخرافة
أجرد، أعزل
وما ذاك يا صاحبي غيرُ فنّ الممثّل
***
صَهٍ يا رفيقي صهٍ
لا تعجّل
وهبني خيالك،
ركّز تأمّل معي
ما سيأتيه هذا الفتى من عجيب العُجاب
 وعش كلّ طرفة عين بما تقتضيه
تأمّل معي خلف ذاك الستار
تخيّل : ...
على قاب نبضة قلب من النّور
ينثال من حالك شاهق
قناعا على قاب همهمة
من بريق انشراح على وجه كلّ الحضور
تخيّل
قناعا يلملم أشتاته في خشوع
وينتظر اللحظة الصّفر كي يتسلل
تخيل
قناعا يقول أنا لست إلا قناعا
وما جئت إلا لألعب دورا
وعندي على الرّكح أحبولة
وخيوط على أعين النّاس داريتها
وسأكشفها عند ميقاتها
كي أفاجئكم بانبلاج الحقائق
من رحم الوهم والادّعاء المظلّل
تخيل
قناعا يقول أنا لست إلا قناعا
ولكنّ لي حيلا
كم تعبت ليحكم تخطيطها حاملي
ويرتّبَ ميقاتَها
ويدربَ منه العواطف والصوت والجسم
وفق الشّروط التي يرتضيها بياني المسجَّل
ويرمي بذاته خلفي
كأن لم يكن أبدا غير هذا القناع المفصَّل
تخيّل، تأمّل وفكّر
بما ينبغي أن نوفّي لهذا الفتى المتبتّل
وهيّا رفيقي نقف للممثل
***
صَهٍ يا رفيقي صهٍ
وتخيل
ولملم شتاتك مثله وانظر حواليك واسأل :
إذا كان واقع يومك مذهل
وكان من النّاس حولك
ما منه، بين الخلائق، تخجل
وكانت جلود الوجوه أمامك أقنعة،
كلّما كدت تأنسها،تتبدّل
وكان النّفاق طريقة عيش
إذا رمتها نلت عشّا بلا نكد
وصحابا بلا عدد
وحياة بها أنت، ركن، مهاب، مبجّل
وإن حدت عنها،
جميعُ الذّرى الشاهقات
وكلُّ البنى الرّاسخات التي كنت أهلا لها
تتزلزل
إذا كان عصرك عصر افتراء
وعصر ازدراء بكلّ المكارم
ما من سبيل لقول الحقائق إلاّ 
بدفع المقابل فورا
عدا ما ستلقى من الانتقام المؤجَّل
إذا لم يكن في الحياة مجال لصدق
فقف باحترام لهذا الذي يضمر الصّدق حيث التقيته
فوق القناع وتحت القناع
وقبل القناع وبعد القناع
وفي كل وهم يشيده من روحه
كي يرينا وجوها على صافيات المرايا
بلا كلّ تلك المساحيق،
تحجب عنا طبيعة هذا المزاج المعدَّل
إذا كنت أهلا
لما في كيانك لم يتيبّس
ولم يترهل
فصالح ضميرك فورا
أفق يا رفيقي أفق وتواضع
وقف للممثّل

الهكواتي - المنستير الليلة الأخيرة من 2017

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني