صفية قم تقرأ دستور الباذنجان

تقديم كتاب: دستور الباذنجان

للهكواتي: سالم اللبّان

بقلم الأستاذة صفيّة قم بن عبد الجليل

شرفتني الأستاذة الصّديقة صفيّة قم بن عبد الجليل بتقديم كتابي "دستور الباذنجان وروايات أخرى" على منبر صالون الزّوراء بدار الثقافة علي بن خليفة بمساكن في أواخر شهر ماي الماضي. وها هي، مشكورة مرة أخرى، تهديني نصّها للنّشر على مدوّنة ورشة الهكواتي"

قبل التقديم:

عرفتُ الأستاذ سالم اللبّان صدفة، أثناء لقاء إذاعيّ دعاني إليه الأستاذان مراد البجاوي ومحمّد عيسى المؤدّب، للتعريف بباكورة إصداراتي: يشتاقني الحنين، ذات أحد من سنة 2013. كان اللّقاء على الهواء مباشرة، وكان هو قد دُعي أيضا لتقديم ديوانه: "غدا... موعد الياسمين "

استمعتُ إلى خطاب مغاير لما جرت به العادة والألسنة، خاصّة في الحديث عن المدارس النقديّة الغربيّة الحديثة وحدود تجنيس الكتابات وخصائص الإبداع والاتّباع... كان الأستاذ رافضا لكلّ الحدود والمعايير المألوفة. استفزّني خطابه دون أن أعلم عنه شيئا وإن كان الاسم ليس غريبا عنّي! بعدها تواصلنا بالفايسبوك وتبادلنا إهداء كتابينا عن طريق السيّدة لطيفة اللبّان الّتي التقيتُها صدفة بأحد اللقاءات الأدبيّة الّتي كان الصّديق الحبيب مرموش يدعوني إليها. ثمّ التقيتُه ثانية لقاء عابرا بدار الثقافة بالمكنين، إلى أن بعث ورشة النّوارس السبعة، دون أن يدعوني إليها؛ وكنتُ آنذاك قد تجاوزت أشواطا في كتابة روايتي الأولى، فإذا بهاجس ملحاح ـ رغم حيائي ـ يدعوني إلى مراسلته ملتمسة إمكانية الانضمام إلى هذه الورشة. اعتذر بدءا لأنّ النّصاب قد اكتمل وأُغلق باب الترشّح، ثمّ لم يلبث أن فتح الباب لتكون ورشة النوارس العشرة بدل السبعة، فكنت أحدها. أثناء اللّقاءات الدوريّة تأكّدتُ أنّ هذا الرّجل مختلف المنحى، ويروم مسالك غير مألوفة، هي أبعد ما تكون عن اليسر والرّضى عن النّفس، بل هي أدنى إلى النّحت في الصّخر بثقة كبيرة في إمكانيات الذّات المنشئة حدّ الامتلاء والنرجسيّة... ثمّ غصتُ في كتاباته، فقد أهداني مشكورا جلّها، فإذا بها تضجّ طرافة وغرابة شكلا ومضمونا، فازداد إيماني بما حدستُ سابقا، ثمّ ترسّخ الإيمان يقينا عند إدلائه ببعض الملاحظات في نصّ روايتي: ليت شهدا...! بيد أنّ الاختلاف في زوايا النّظر ـ الّذي قد يكون مرجعه اختلاف التكوين الأكاديميّ لكلينا ـ لم يزد صداقتنا إلّا رسوخا وإيمانا بأنّ للإنشاء الأدبي أبوابا عدّة ونوافذ شتّى... حتّى أخرج للنّاس "دستور الباذنجان" وأهداني مشكورا نسخة منه. لم أفاجأ بأسلوب الكتاب ولا بمضمونه، فالأستاذ سالم اللبّان هو ذاته مطارِد الحلم ومرتاد الطريق الوعرة وسالك أدغال اللّغة ومطوّع بيانها القديم لمستحدَث قضايا العصر ومستجدّات الأحداث، فإذا بالاختلاف يضحي ائتلافا حتّى لا نشاز ولا تباعد بين الماضي والحاضر!

  تقديم الكتاب:               
                     
هو آخر إصدارات الإعلاميّ الأديب سالم اللبّان، عن دار الجسر الصّغير للنشر وعن المغاربية للطباعة والإشهار، سنة 2015 ويضمّ أربعة نصوص سرديّة اعتبرها منشئها روايات ووسمها بعناوين مختلفة على النحو التّالي:
ـ 1 ـ دستور الباذنجان، من ص 29 إلى ص 79 : 51 صفحة، وهي أطولها.
ـ 2 ـ عن النّكرة بن النّكرة: من ص 83 إلى ص131: 49 صفحة.
ـ 3 ـ المفتاح: من ص135 إلى ص 164: 30 صفحة.
ــ 4 ــ مواقد الجمر: من ص 165 إلى ص 201: 37صفحة. وقد قدّم لهذه النّصوص السرديّة الأربعة بعتبات أربع أيضا أولاها تعريف المؤلّف بنفسه، وثانيها تصدير من مقدّمات الأستاذ توفيق بكّار، وثالثتها إهداء إلى فاطمة، وهو ـ كما ذُكر في الهامش ـ استعادة من ثلاثيّة "دفاتر الرّحيل"، ورابعتها كلمة للمؤلّف ذاته؛ ويلي ذلك قراءة تفاعل للأستاذ لطفي الشّابيّ، وسمها ب: "إنشاء يتعشّق صورته في مرآة الحياة". أمّا خاتمة الكتاب فقد ذيّله بملحق وهو نصّ ذو تسعِ صفحات ونيف وسمّاه "الفاتحة" وذكر في هامش أسفل الصفحة أنّه أيضا عائد إلى الورق من ثلاثيّته الرقميّة "دفاتر الرّحيل" الّتي نُشرت على موقع الجسر الصغير سنة 2000.

إنّ هندسةَ الكتاب وإخراجَه إلى النّاس على غير مُخرَج العادة وما جرى عليه التأليف والتصنيف ليبعث في القارئ الحيرة والسّؤال تلو السّؤال: فما عهدتُ في ما أعلم ـ وأزعم أنّي ما أوتيتُ من العلم إلّا قليلا ـ أنّ المؤلّف يفتتح مصنّفه بالتعريف بنفسه، بل عادة ما يكون ذلك في قفا الغلاف أو بجانب مطويّ من الغلاف. وما عهدنا ذات الإهداء يتكرّر من كتاب إلى آخر. وما عهدنا الفاتحة تُذيِّل الكتاب وتنتقل أيضا من مصنّف إلى آخر بفاصل زمنيّ يقدّر ب15 خمس عشرة سنة، وما عهدنا أيضا كتابا يجمع أربع روايات معا، وما عهدنا رواية دون المائة صفحة، بل دون الخمسين!

بيْدَ أنّ المتأمّل الممحّص سرعان ما تتبدّد عنه الحيرة تدريجيّا وينجُم لديه يقينٌ يشي بأنّ المؤلّف أراد عن وعي أن يسلُكَ دربا ينأى به عن التنميط والتقليد والتقعيد والتصنيف... ويُتيح له حريّة الإنشاء خارج الأجناس والأنماط: Les prototypes ودون فصل بين وسائل التعبير، حرفا أو ريشةً وألوانا أو حركةً أو صوتا... فلغة التعبير والتأليف لغاتٌ تتآلف وتتداخل وتتساند وتتصادى... ولغة الإنشاء لا تعترف بالقِدْمة والجدّة والحداثة، بل هي مزيج من جميعها دونما نشاز أو إجحاف، عساه يظفر ببعض المسالك إلى الشّعر في معناه الأوسع أو بأدب هو أصدق ما ينبئ عن الحياة في مدّها وجزرها وفي ماضيها وحاضرها. لذلك، لا يستقرّ المؤلّف على حال من أحوال اللّغة ولا على أسلوب بعينه من أساليب التأليف ولا يسجن نفسه في جنس من أجناس الكتابة الّتي تواضع عليها النقّاد والمنظّرون... بل تراه دوما "على قلق كأنّ الريح تحته"، بحثا عن بكر السّبيل الّذي لا يبلغه إلّا بالرّحيل تلو الرّحيل؛ أفليس "أفضل العلم الرّحيل؟! "

سندباد الحرف هذا يحمل في جرابه مشروعا ومغامرة كتابة نصّ يريده مختلفا ويسعى إلى أن يكون متفرّدا وجامعا في آن بين ما لا يجتمع عادة إلّا عند من كان هاجسه التجريب: تجريب مختلف أساليب السرد وتقنياته، فإذا المغامرة مسار متّصل أوّله بآخره وإذا بنصّ ما بعد الثورة "دستور الباذنجان" يحمل جينات نصوص كتبت قبل الثورة بعشرين عاما تقريبا؛ وهذا ممّا يدفعنا إلى اعتبار النّصوص الأربعة "دستور الباذنجان" و"عن النّكرة بن النكرة" و"المفتاح" و"مواقد الجمر" نصّا جامعا يبغي إرساء منهج في الكتابة يؤاخي بين القديم والجديد وبين الواقع والخرافة وأساطير الأوّلين وبين الجدّ والهزل والكشف والإخفاء والمخاتلة...

وأنا أقرأ الكتاب بنصوصه الأربعة ينتابني مزيج من الضّحك والبكاء، في آن، وأرى المؤلّف لاعبا ماهرا يُجيد التغرير بقارئه ويتقن التمويه عليه بمختلف أدوات الرّسم والتأليف والحياكة... فإذا بالخرافة واقع مرير، وإذا بالواقع المرير خرافة يستطيب سماعَها الصّغارُ والكبار على حدّ سواء وإذا بتاريخ الأمّة عود على بدء وكأن لا فرق بين ما مضى وما حضر بل وما هو آت...! وقد أكّد المؤلّف ما ذهبتُ إليه بالحدس ومساءلة النّصوص بحثا عن الوشائج الممكنة بينها، في الفاتحة الملحقة بالكتاب ص 206 بقوله: "جاوزت الأربعين منذ سنتين أو ما يزيد وما زلت بعد صبيّا لا أتذكّرني إلّا لاعبا ولا أراني إلّا لاعبا حتى نهايتي إن لم يكن بالقرطاس والقلم فبالفرشاة والألوان أو بالعود والريشة أو بجسدي وصوتي ومشاعري أو بآلة التصوير الشمسيّ أو بكاميرا الفيديو أو بغير هذه الأدوات لا فرق عندي بين هذه اللعبة أو تلك كلّها مجرد لعب وكلّها مجرد أدوات للعبة واحدة لا أحسن غيرها: حياكة أشياء تبدو لي في ظاهرها جديدة من أشياء هي في واقع الأمر قديمة قدم الكون. وسواء عندي أن تكون مادة الحياكة أحرفا وكلمات أم أشكالا وألوانا أم أنوارا وظلالا أم أصواتا وسكونا فإنّ النسيج واحد طالما أنّ الحائك واحد. "

ومن هذا المنظور ندرك أنّ هذه النّصوصَ ذاتُ وجهين: وجه ظاهر جليّ ووجه باطن خفيّ، فإن شئت أخذتها أخذا يسيرا، وإن شئتَ غصت على مكامنها فأدركت ما لا يدركه الواقف على هامشها وظاهرها.

*دستور الباذنجان:
عتبة هذا النصّ الأولى تستوقفك لغرابة العلاقة بين المضاف والمضاف إليه، قد تضحك وقد تدهش وقد تصيبك الحيرة، فمتى كان للباذنجان دستور وما يشرِّع وما فصوله وأوامره؟! تسعفك ذاكرتك بقول هزليّ طالما تردّد في فلم مصريّ ما عدت أتذكر عنوانه: "سلّم لي على الباذنجان!" تنبش أكثر فيما تعلم من أمر الباذنجان، لونه، طعمه، سعره... فتبدو الصورة أكثر وضوحا: دستور بلون الباذنجان البنفسجيّ الدّاكن، فتدرك أنّ شأن هذا الدستور أتعسُ من شأن العهد البنفسجيّ الّذي خلناه أفل ب"ثورة الياسمين" فإذا به قد تمكّن أكثر، ما دام اللّون قد أمسى أغمقَ! تستذكر شكل الباذنجان فإذا به من فصيلة الطماطم منتفخٌ أجوف سريع الفساد وتستذكر طعمه فإذا به مرارة لا تزول إلّا بالطبخ أو القلي وبعض البهارات، وتستذكر سعره فإذا به رخيص زهيد وفي متناول الجميع... إذن من العتبة الأولى: العنوان، يبدو هذا الدستور بنفسجيَّ الهوى قديمَ المنحى لا جديد فيه ولا طرافة، بل هو مرّ طعمه وزهيد ثمنه... تطوّح بك الحقيقة إلى المجاز، فإذا بهذا الانزياح يدعوك إلى قراءة المتن وقصّةِ هذا الدستور الغريب العجيب:

*المتن:
تستقبلك الخرافة ويطلّ عليك ابن المقفّع بكليلة ودمنة مترجما عن الفرس والهند ما به يستقيم أمر السلطان والرعيّة: "زعموا أنّ..." ص 29 ويضحكك الاسم نعناع المناسب للباذنجان إلّا أنّه يفاجئك بوعيه بقضيّة جادة كأشدّ ما يكون الجدّ، حاضرة عبر كلّ العصور وبسعيه الدّؤوب إلى الحيلة ما دامت له القدرة على الإنشاء رغم بوار سوق الأدب في عصره كما في عصر التوحيديّ واليوم، وعزمه على أن يصنع من خياله حكاية مسلّية طريفة لم تُسمَعْ قبله فيفوزَ بحظوة لدى السلطان فيُكسى بعد عراء ويُطعَم بعد سغب ويُسقى بعد ظمإ. ولم يجد نعناع موضوعا لحكايته أفضل من موضوع الدّسائس والمناورات الدّائرة في قصور السلطان بين الوزراء والحاشية والخدم... وارتأى للإمتاع والمؤانسة والظّرف أن يُقحِم في حكايته الإطاريّة حكاية فرعيّة تتضمّن وصفة سحريّة لأكلة عمادها حبّة الباذنجان تمنح السلطان متى أكلها القدرة الخارقة على معرفة ما بصدور كلّ المحيطين به، سمّاها "خرافة عهد الباذنجان".

نحن إذن في إطار خرافيّ لمعالجة قضايا سياسيّة حارقة لم يخل منها قصر ولا عصر: الدّسائس والتآمر والتزلّف وطمس الحقائق عن السلطان.... وبمزج الجدّ بالهزل والواقع بالخيال نتحوّل إلى عالم عجائبيّ وما هو بعجائبيّ إن أدركنا الهوّة السّحيقة الفاصلة بين ما هو كائن بالقصور وما يجب أن يكون عليه! ويسعى مؤلّف النصّ إلى ترسيخ هذه الهوّة برسم بون شاسع بين السلطان وهذا الحكّاء، إذ شتّان بين الاسمين: نعناع المثير للضحك، إيقاعا ودلالة وبديع الزّمان الموحي، تركيبا ودلالة بالأبّهة والجاه والهيبة والطّرافة والفرادة... وإن كان نعناع يبغي أيضا أن يأتي لبديع الزّمان ما لم يأتِ به الأوائل فيكونَ شبيهه في الإبداع، السلطان بديع بالوراثة ونعناع مبدع اكتسابا ومثابرة وضرورةً تقتضيها حاجته إلى أبسط مقوّمات الحياة: الأكل والشرب والستر. وإمعانا في التقريب العجيب بين السلطان بديع الزمان ونعناع يجعلهما المؤلّف مولعين بوضع القوانين درءا للمظالم والدّسائس: فبديع الزمان "كان معروفا بين السلاطين بوضع التراتيب وتسطير القوانين وكان حريصا على ضبط شؤون رعيّته في أدقّ تفاصيلها، حتّى قيل إنّ الحياة اليوميّة قد بلغت ذروة من التنظيم، لا مجال لأن تبلغها بقيّة الشّعوب بقيادة أيّ زعيم.." ص30 أمّا نعناع فقد صمّم وأنجز وضع دستور الباذنجان لمساعدة بديع الزمان على كشف ما به يكون الاستبداد وتنتشر المظالم بين الرعيّة... فهل يلتقيان من أجل إرساء عدالة اجتماعيّة داخل القصر وخارجه؟

تبدأ العراقيل بمجرّد تسلّل نعناع إلى سقيفة القصر مع جملة من الدّاخلين. وتفعل اللّغة مفعولها السحريّ، فلا ندري إن كنّا في قصر سلطان من السلاطين الغابرة أم في قصر قرطاج وما شابهه! هذه اللّغة المخاتلة الجامعة بين المفردات والمصطلحات القديمة والحديثة تحيلنا إلى عالم الخرافة والبِدع يعضدها في ذلك طرائق السرد الّتي منها الجملة الّتي تتكرّر: "كان يا ما كان" مع توخّي السّجع في مواطن كثيرة، فلا نحن نصغي إلى مقامة أو خبر من كتب الأخبار والنّوادر ولا نحن نقرأ نصّا معاصرا تحكمه مفردات ومصطلحات تستجيب لروح العصر. إنّ هذا الكوكتال الجامع بين القديم والحديث هو من أسرار بلاغة النصّ وإنشائيّته عالية القيمة، ألم يكن هذا منهج الأديب المتميّز محمود المسعدي في كلّ ما ألّف؟  ذا صوته يعلو من ثنايا الحكاية ليقول: "..." وذا صوت النّاقد الجهبذ، أستاذ الأجيال: توفيق بكّار يجزم بألّا جدّة أو طرافة دون قدمة وذي أصوات عديد النقّاد عربا وعجما تردّد ألّا كتابة من فراغ وأنّ الكتابة الأدبيّة حقّا ليست إلّا قراءات متحوّلة بطرائق مخصوصة، وإذا بالكلام آخذ بعضه برقاب بعض، فتتصادى النّصوص وتتوالج وتتواشج بعرى متانتها على قدر قدرة المؤلّف على إحكامها لغة وبناء ودلالة.

ولئن كان هذا التّصادي بين الماضي والحاضر، لغةً وسلوكاً، توظيفا واستئناسا من آليات الكتابة الرّشيقة الواعية الضّاربة في أعماق التّراث... فإنّه أيضا من تقنيات الأدب السّاخر: "وما إن التأم الجمع وبدأت مراسم الاحتفاء، حتّى دارت مباراة خطابة نقلتها الإذاعات على الهواء، وتناوب شيوخ ديوان التشريع على تناول الكلمة في حضرة السلطان بديع، فأخذ كلّ يُطنب في شرح الفوائد التي ستَغنَمُها  السلطنة من تقنين شؤون الباذنجان ويزايد على الآخرين في تأكيد حاجة البلاد إلى هذا الإنجاز الّذي سيزيد في رفع شأنها بين البلدان. كلّ هذا ونعناع منبهر من قدرة أهل العلوم الصّحيحة على النّفخ في مشاريع من صنع الخيال، مستلذّ ما يتهاطل عليه من مديح، ملازم ما تعهّد به من صمت ليتجنّب سوء المآل. كانت ليلة مشهودة، أشرقت فيها أنوار قاعة أنس السلطان، فغنّت الجواري ورقصت القيان، ودارت أطيب الكؤوس على بديع الزّمان وخاصّة خاصّته من الندمان. حتّى بلغ السلطان ذروة انتشائه وحبوره، وعادت للفاعلين في القصر اليد العليا في تصريف أموره. أمّا نعناع، فقد كان طيلة السّهرة يشرب ويبتسم ولا يزيد عن تحريك رأسه بالتحيّة والردّ على كلّ سؤال "بأي نعم... أي نعم."... حتّى إذا قرُب موعد آذان الفجر، كانت قاعة أنس السلطان تطفو على أعمق موجات السُّكر. وكان بديع الزّمان يُمضي على فرمان يسمّي فيه "نعناع باشا" مشرّع المشرّعين ويقضي بإقامته في القصر بصفته من تاريخ ذلك الفرمان، رئيسا مؤسّسا لفريق تحرير نصّ لم تعرف السلطنة أهمَّ منه على مرّ الأزمان، سيدعى على بركة الله: "دستور الباذنجان." أمّا الجموع التي احتشدت في الشّوارع مطالبة بالتغيير فما زال العلماء محتارين كيف اقتنعت بأنّ كلّ مشاكلها ستجد الحلّ بفضل مشروع الدستور؟ وكيف زال الكدر وانشرحت الصّدور؟ وكيف تحوّل هيجان الثورة إلى تخميرة فرح وسرور؟ في تلك الليلة البهيّة، ذاب جليد الشّوارع وعمّت الفرحة السّاحات وبطاح الأحياء الشعبيّة. وقبل أن تفرغ طرقات المدائن من الجموع السّكرانة، أرسل السلطان مناديه يُعلن قراره في الحشود الجذلانة، فإذا الحناجرُ تضجّ مشيدة بحكمة بديع الزّمان، معلنة امتنان الرعيّة للشّرف الّذي نال "نعناع باشا" ومطلق تأييدها لما جاء في الفرمان. وأجمع النّاس في كلّ مكان على أنّ السلطنة لم تعد تحتاج إلى إنجازٍ قدر حاجتها إلى دستور الباذنجان." ص ص 46 ـ 47

" أحنا وين سي علاء؟؟؟ عفوا سي سالم اللبّان؟؟؟

إنّ هذا النصّ المفصليَّ الهام ليس إلّا نموذجا لفقرات أخرى يُوظَّف فيها الوصف والحركة والألوان والأصوات والحالات بكلّ حرفيّة فتتعاضد التقنيات لترسم مشهدا دراميّا مضحكا مبكيا في آن. إنّه الأدب السّاخر النّاقد كما عرفناه لدى الجاحظ والمعرّي وموليار وغيرهم... وقد عمد المؤلّف إلى معجمين، أحدهما قديم وثانيهما حديث متداول، من ذلك ما يلي:

المعجم القديم: الحاضرةـ الجواري والقيان ـ  جارية ـ فرمان ـ السلطان ـ السلطنة ـ  القصر السلطانيّ ـ قاعة العرش ـ حاجب  ـ  ديوان التشريع ـ مشرّع المشرّعين + الفدائيّ + شيخ شيوخ ـ الأوساط العليّة ـ الممالك الصديقة ـ الرعيّة ـ بيت المال ـ جمع الإتاوات ـ الجباية ـ فخذ من آل الفدائيّ ـ العصيان والتمرّد ـ الحاجب ـ حاشيته ـ ولي العهد أبو البقاء سرحان ـ أجلسه على العرش وكان أوّل المبايعين ـ البيعة ـ أصول الحكم...

ـ المعجم الحديث: المذياع ـ الحملة الإعلاميّة ـ خاصة الخاصة من الإعلام المأجور ـ نشرات الأنباء ـ هيبة الملك ـ الاعتصام ـ التهميش ـ الانتحار ـ المستشارون ـ المفاوضة ـ الأحياء القصديريّة المحيطة بالحاضرة ـ لحمة ثلاثيّة ـ أهازيج الحضرة والرّبوخ ـ تشكّلت جبهة ـ مسخرة نعناع باشا ودستور الباذنجان ـ التغيير ـ رموز الفساد ـ استغلال النفوذ ـ عهد جديد ـ عصابة من أجلاف مسلّحين بالسيوف والهراوات ـ تسرّبت إشاعة ـ حرمة الدولة ومصير الوطن ـ صدر بلاغ من القصرـ دخلت السلطنة في حداد ـ انتشر العسكر في الشّوارع لفرض حالة الطوارئ على كامل البلاد ـ جاء في الأخبار أنّ مؤرّخ السلطان عاد الى القصر على رأس عصابة واغتال بديع الزّمان وأنّ أعوان الحرس السلطاني ـ البلاد ستبقى تحت طائلة قانون الطوارئ ومنع التجوال ـ حملات الإعلام ـ استتبّ في البلاد الأمن والنظام ـ رفع حالة الطوارئ...الفدائيّ ـ مميّزا فوق الرتبة ـ الجهات المنسيّة ـ الأوساط الشعبيّة ـ بعض العروش ـ لجان تحرير دستور الباذنجان...

وإضافة إلى المزج بين معجمين لحقبتين زمنيّتين فقد تخيّر المؤلّف لأشخاصه أسماء مخصوصة، وهي:

ـ الأسماء:

*السلطان بديع الزّمان: وهو من الأسماء الأضداد، فلم يكن مبدعا ولا قادرا على سياسة الدولة ولا متحكّما في دواليبها ولا عارفا بحقائق ما يجري في القصر وخارجه، حتّى كان ضحيّة مؤامرة وزيره ابن أريج.

* الوزير ابن أريج: من الأسماء الأضداد أيضا، فلا أريج له غير نتونة المكائد والخبث والتّآمر وسفك الدّماء وإن كان فاعلا في تسيير السلطنة...

*المؤرّخ مخلص بن نزيه:  لا علم ولا معرفة له بالتّاريخ، ولا إخلاص ولا نزاهة في سلوكه بل هو يخبط خبط عشواء ويحتال من هنا وهناك، فهو تارة مع السلطان وتارة مع المتمرّدين على السلطان، حتّى اغتيل شرّ اغتيال وجنى على السلطان ذاته وعلى وزيره وحاجبه.
*نعناع باشا: مشرّع المشرّعين + الفدائيّ + شيخ شيوخ مميّزا فوق الرتبة: يصحّ فيه قول الشّاعر، ابن خفاجة:

ألقاب مملكة في غير موضعها 
 كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد

هو سجين قصر السلطان ويعلم يقينا أنّ دستور الباذنجان ليس سوى مهزلةٍ وهراءٍ وخيالٍ وهو مفعول به أظهره الإعلام في صورة فاعل كفء قدير، وعلى قدر ملازمته الصّمت كان محلّ اهتمام وسائل الإعلام ونشر أنشطته وإنجازاته الوهميّة، بل إنّه قد لقي الحظوة لدى السلطان بديع الزمان ذاته، فأغرقه بالألقاب وأنزله المنزلة الّتي ما كان يحلم بها... ورغم شعوره بالإحباط فقد لازم الصمت والانضباط، إذ تعلّم ممّا جرى أن يخاف ويحتاط!

* وليّ العهد أبو البقاء سرحان: بقاؤه رهين إرادة الوزير ابن أريج وهو يأتمر بأوامره: لا تغيير فيما جرت العادة عليه وسيظلّ  ابن أريج في منصب الوزير لأنّ البلاد في حاجة إلى ما ينفرد به من حكمة وحسن تدبير. وإنّه وفاء لروح أبيه الشّهيد سيحرص شخصيّا على دعم كلّ الجهود الرّامية إلى استكمال المشاريع الجارية وعلى رأسها مشروع دستور الباذنجان. وما درى وهو السرحان أنّ ابن أريج هو قاتل أبيه وأنّ أباه اغتيل غدرا لسذاجته وعدم الاحتراز من أعدائه...!

 إنّ عبث المؤلّف بشخوصه وإظهارهم على غير ما هم عليه في حقيقة أمورهم ليس إلّا من باب النّقد الهازل الموجع، نقد ما آلت إليه القيم من ضعف وتدهور وفساد وانقلاب... ولئن توارى خلف حجاب معجم يشي بالقدم غالبا فإنّه قد رسم حاضرا عشناه وشرّح فسادا قيميّا طال السياسة والإعلام والاقتصاد و...

ولئن اكتفى أحيانا بالإشارة والتلميح فإنّ العبارة غالبا ما كانت كشّافة موغلة في نبش ما وراء التلميح تصريحا وإبانة حتّى لا تخفى إلّا على غافل... إنّه واقعنا يرسمه المؤلّف هزلا يُريد به جدّا، فلا ندري إن كان لنا أن نضحك من هذا الخور أو أنّ علينا أن نبكي على ما آل إليه أمرنا!

ملاحظة أخيرة: من الغرابة الصّارخة ألّا وجود للمرأة في هذا النصّ إلّا جارية تُهدى لنعناع مقابل صمته أو قيانا يغنّين ويرقصن في قصر السّلطان أو صبيّة ذات صوت رنّان تقرأ رسالة ممضاة من كلّ الأعيان تهنّئ أبا البقاء بالبيعة وتناشده تجديد ثقة العرش في ابن أريج وزيرا للسلطان؟! أحقّا لم يكن للمرأة دور يذكر فيشكر قديما وحديثا، وما عهدتك عدوّا لها ولاناكرا فضلها ودورها وإن في الدّسائس؟!


صفيّة قم بن عبد الجليل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني