طفل المائدتين للهكواتي

طفل المائدتين للهكواتي
في تلك الليلة خرجت أطارد حلما

قراءة كمال الهلالي

(صدرت هذه القراءة في جريدة "الصّحافة" السبت 12 مارس 2016 ص 13)

عن دار الجسر الصّغير صدر ديوان جديد للهكواتي (سالم اللبّان) يحمل عنوان "طفل المائدتين".
يعرّف الهكواتي نفسه بأنّه "فنّان اتّصاليّ لا يكفّ عن سلوك الثّنايا غير المرتادة تنقيبا عن الشّعر في معناه الأوسع". والملاحظة الأولى التي قد يخرج بها قارئ الدّيوان هو أنّ الشّاعر لم يحبس نفسه في ثنيّة واحدة وحاول أن "يسبح" في ثنايا كثيرة: من القصيد الحرّ إلى الأغنية (بالدّارجة التّونسية)، إلى قصيدة النّثر، كما أنّ "همّ التّجريب" يحضر بقوّة في الدّيوان إلى الحدّ الذي يصبح فيه أحيانا غاية في حدّ ذاته كما في قصيد "وهذا عمود آخر"، المستغلق تماما:

قَلْفَنْتُ لِلْمــِشْقَاطِ فَطــْحَةَ ســُرْقُمٍ
يَنْشــَظّـُ مِنْ خُرِّ الشـــِّمَا مُتَأَسْخِرَا
وَمَقَعْتُ ضِرْطَابَ الصَّلاَغِمِ  فَاقْعَظَى
وإنْعَجَّ مَشْفُوخُ السَّمَاقِلِ عَاجِرَا
يَا مُشْقِطًا سَعَجَ  الفَقَائِقِ إِنْ خـَدَتْ
وَتَغَافَقَتْ إِنَّ الفـَــقَائِقَ عَصْدَرَا
وحين نقرأ شرح كمات هذا القصيد في الهوامش يزداد النّصّ إيغالا في الغموض وصعوبة المعنى، ولعلّ هذا "القصيد" جعل ليقرأ على جمهور قد يفاجأ بمثل هذا الإيقاع للكلمات.
في بقية القصائد ثمّة سلاسة في المعنى ومحاولة لبناء القصيدة على نحو يوصل الإحساس أو الفكرة التي يرغب الشاعر في إيصالها:

وَ لَمَّا يَضِيقُ الطَّرِيقُ
بِطُولِ الطَّرِيقِ
إزْرَعِينِي عَصًا وَ جِرَابًا
بِحَجْمِ الفُصُولِ
وَ زَيْتُونَةً
لاَ جُذُورَ لَهَا
لِأَنْبُتَ
فِي كُلِّ حَقْلٍ جَدِيدٍ
نَبَاتًا جَدِيدًا
وَ أَنْبَعَ
مِنْ كُلِّ ثَمْرٍ جَدِيدٍ
مَذَاقًا جَدِيدًا
وَ أَبْزُغَ
مِنْ كُلِّ فَجْرٍ جَدِيدٍ
ضِيَاءً جَدِيدًا
وَ أُولَدَ
مِنْ صُلْبِ كُلِّ الصَّبَايَا
رَحِيلاً
إِلَى مَا وَرَاءِ الرَّحِيلْ
وَ تَوْقًا إِلَى عَالَمٍ
مَا بِهِ مُسْتَحِيلْ

توق الشّاعر إلى عالم  بلا مستحيلات ورغبته في أن يكون "زيتونة لا جذور لها"، تعارضهما إشارات كثيرة في الدّيوان بدأ من العنوان "طفل المائدتين" الذي يحيل على موطن الشّاعر وعلى مكان له دلالته في طفولة الشّاعر.
يذكر أنّ المائدة الكبرى والمائدة الصّغرى جبلان ممتدّان في البحر، اكتسبا شهرتهما من قبل اطفال شباب المنستير الذين يرتادونهما لتعاطي رياضة الغطس البهلواني الخطيرة، حيث أنّ القفز من موقع "الماجل" يعني الوقوع في شبه بئر محاطة بصخور خطيرة ولا يتجاوز عمق مائها المتر الواحد:

"دَعْ عَنْكَ مَوَائِدَهُمْ
يَا طِفْلَ المَائِدَتَيْنِ، أَيَا كَبِدِي
لاَ تَتْرُكْ مِنْكَ لُعَابَ العَيْنِ يَسِيل
وَلِسَانَك صُنْهُ عَنِ الخَيْرَاتِ السَّبْعَةِ،
فِي أَطْبَاقِ الشَّبْعَانِين
دَعْ صَبْرَكَ حِصْنًا
مِثْلَ رِبَاطِ جُدُودِكَ
يَشْمُخُ فَوْقَ الجُوع"

في هذه القصيدة "عطش الكرنيش" تكثر الإحالات على أمكنة الطّفولة (الرّبط، شاطئ القرّاعية، الوليّة الصّالحة الكحلية، برج القلب، جزيرة الوسطانيّة...) بحثا ربّما عن إجابة للسؤال الممكن التّالي:

يَا "قَرَّاعِيَّةُ"،
كَيْفَ تَشِيخُ رِمَالٌ،
طِفْلٌ عِنْدَكِ أَوْدَعَهَا ؟
يَا ...
كَيْفَ يَشِيبُ المَنْظَرُ بَعْدُ،
وَلَمْ تَشِبِ العَيْنَان ؟

لم تصب العينان بالشّيخوخة، ربّما لأن قلب الشاعر لا يزال أخضر، ولأنّه يحتاج إلى "شباب الخطوة" حتى يخوض في المسرب الذي يهمّه:

أَنَا يْهِمّْنِي المِسْرِبْ ...
يْهِمّْنِي المِسْرِبْ ... المْحَرْدَبْ ...
المِسْرِبْ اللِّي مِنْ أَوَّلْ خَطْوَة فِيهْ
تِبْدَأ تْكَبْكَبْ ...
تْقُولْ سَاقْ حِفْيَانَة
وْمِنْ تَحْتْهَا الجْمَرْ
حَامِي يْلَهْلَبْ ...
أَنَا ثْنِيّْتِي الثّنِيَّة
اللِّي لاَ حَدّ دْخَلْهَا مِنْ قْبَلْ...
ثْنِيّْتِي الثّنِيَّة
اللِّي كَاْن دْخَلْتْهَا
يَا تْجِيبْ الصِّيدْ مِنْ وِذْنُه
يَا تَخْسَرْ الكُلْ فِي الكُلْ ...

أثبت الشّاعر في مقدّمة الدّيوان نصّا عنوانه "المحفوظات" يتحدّث فيه عن هاجس طفل له أسئلة كبرى عن الوجود يقرر أن يحوّل الدّروس المملّة إلى "محفوظات شعريّة" باحثا عن تقليد وقع حوافر الخيل على الأرض، لأنّ المعلّم قال له إن الأجداد الأوائل كانوا يصنعون الشّعر بتقليد خبب الخيول.
ولعلّ هذا الهاجس، هاجس إيجاد الإيقاع المناسب لنقل فكرة أو إحساس لا يزال يتحكّم في حساسيّة الهكواتي، الذي نوّع في بحثه التّجريبي عن إيقاع يشبهه، هو "الكافر بحكمة أسلافه".

كمال الهلالي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني