بوصلة سيدي النّا... 23 ميراث ميارى

سنتي على جناح السّرد 53 من 53 // بوصلة سيدي النّا... 23 من 23– 06 مارس2009


المسلك الثالث :

بدري في التّمّ

الوجهة الخامسة :

ميراث ميارى

"علاقة هذا بالواقع محض خيال"- الهكواتي


لم تنته الكوابيس.
كابوس يجرّ كابوسا، يفضي إلى كابوس. ينتهي مفعول المنوّم وأنا في فراشي أرفض فتح عينيّ مصرّا على ارتشاف جرعة نوم أخيرة، ربّما أصبت بها حلما جميلا أو رؤيا تحمل بشرى الرّبيع.
لم تنته الكوابيس.
كابوس يجرّ كابوسا، يفضي إلى كابوس. منذ استقرّ بي المقام هنا، لم أعد أعرف طبيعة أحلامي ولا أفرز كوابيسي من كوابيس بقيّة النّزلاء. أفلت منّي زمام الحلم من حيث هو لذّة، فتركتني الحياة نهائيّا في القصر المنيع وأخذت تبتعد عنّي، تجدّ في سيرها نـحو جبال مزهرة بالثّلج وطيب العيش، لا يغيب عنها الرّبيع أبدا.



لم تنته الكوابيس.
كابوس يجرّ كابوسا، يفضي إلى كابوس. والنّاس من حولي يتجمّعون بالمئات، يختطفون الزّوارق من المواني ويركبون البحر إلى المجهول، والحياة لا تني تدير لهم ظهرها، فتغرق بعضهم قبل الوصول، وتحبس بعضهم في سجون الشّمال يحرقونها ويحترقون داخل زنازينها. ثمّ يعود بعضهم الآخر من نفس المسلك إلى اليابسة مكبّلين في السّلاسل.
لم تنته الكوابيس.
كابوس يجرّ كابوسا، يفضي إلى كابوس. وقد صرت أخاف.
أخاف كلّما ابتدأ حلمي بمشهد الزّهور وصدّقت مثل هذا الفأل المبشّر بالفرح. فكلّما صدّقت كلّما كان فرحي أكبر، وكلّما كبر فرحي كلّما كانت نهاية حلمي كابوسا أفضع من كلّ الكوابيس.

*****

...نائم تحت القنطرة أحلم بأنّني أحلم. أرى سيدي النّا... يهديني باقة ورود ثلجيّة البياض. يضع على رأسي يده، يتحسّس الحمّى متألّما لألمي، ثمّ يطبع على جبيني قبلة طويلة ويقول :
- "الحمد لله على سلامتك يا مجدة. أنا فخور بك. ستنتهي الحمّى، ولا يبقى غير ذكرى نجاحك في الامتحان"
... ويبتعد عنّي سيدي النّا...، مشيرا إليّ بسبّابته أن أتبعه. أجري وراءه بين التّلال، وقلبي مفعم بالفرح. يغيب عنّي سيدي النّا... في غاب كثيف الأشجار. هناك، أجدني في طريق معبّدة. على حاشية الطّّريق علامة مرور تشير بخطّ عريض إلى "تازغران". تتضاعف فرحتي. أجري وأجري حتّى أتخيّلني بطلا أولمبيّا. أعبر قنطرة ضيّقة على مجرى وادي هزيل. أكتشف القرية الحمراء بمساكنها البيضاء النّاصعة، فأجد بطحاءها مليئة بالجماهير تحمل لي باقات الأزهار وتهتف باسمي. تبدو لي البطحاء صغيرة ولكنّها مزدانة بأعلام كثيرة ولافتات عديدة، كتب على إحداها "الوصول"، وكتب على أخرى "مرحبا بالبطل محمّد الأمجد بريقشة"، وهكذا.

... تبلغ بي النّشوة ذروتها وأجدني وسط حلقة المشجّعين وهم يصفّقون لي ويطلقون آهات الإعجاب، بينما صوت مذيع ينطلق من مضخّم الصّوت صائحا :
- "أخيرا وصلت البوصلة إلى تازغران... غنّوا جميعا للبوصلة... صفّقوا جميعا للبطل"...
... فجأة ينقلب الحلم كابوسا. ويصيبني ما يشبه الشّلل. أُدخل يدي في سروالي لأتحسّس البوصلة. آخر عهد لي بها كان أيّام الصّحراء، أيّام كانت بوصلة سيدي النّا... متدلّية بين ساقيّ مع خصيتيّ، مشدودة إلى حزام حول خصري. أخجل من نفسي. تثور من حولي ضجّة ضاحكة وأنا أفتح فخذيّ وأتلمّس بكلّ براءة ما بينهما فلا أجد للبوصلة أثرا. ثمّ لا أدري كيف ينقلب ضدّي فجأة جمهور المشجّعين، ويبدؤون الهجوم عليّ. كلّهم يرتمون فوقي حتّى يحجب عنّي نور النّهار فلا أعود أشعر إلاّ بالضرب ينهال على جسدي من كلّ صوب.
... فجأة أجدني وسط مغارتي البونيّة حيث يلتئم الآن مجلس مهيب. يبدو أنّ الأمر يتعلّق بإقامة محاكمة لي بأتمّ معنى الكلمة، ولكن في الظّلام الدّامس. أنظر إلى المنبر فإذا الذي تمّ تعيينه لرئاسة المحكمة ليس إلاّ سيدي النّا... شخصيّا. وسيدي النّا... يبدو الآن في حال من الغضب لم أره أبدا على مثلها، عندما كان على قيد الحياة :
- "أنت الذي خنت الأمانة يا مجدة. يا خسارة تربيتي فيك. أمّنتك على البوصلة فأضعتها ولم تكن أهلا للمهمّة."
... ألتفت فإذا المغارة مزدحمة من حولي. صاحب الزّورق الذي هربت فيه من الهوّاريّة موجود، وكلّ الشّباب الذين كانوا يعتزمون الحرقة على متن زورقه موجودون. كذلك يوجد صاحب الحمار، وأعوان صاحب الحمار، وصاحب ضيعة البرتقال، ونادية بالعيساويّة، وأمّها، وبوجمعة الدّزيري، وأبناؤه، وزوجته، والحاجّة هنيّة، وعاملاتها في ضيعة السّلوقيّة، وبشرى التّوكابري، وفارس الخميري، ونوفل الوشّام، وكريم أولاد بالعيفي، وأمّه، وسفيان الجريدي، وأخته، وابن أخته، وحفّة الجيغولو، وأصحابه الملثّمون الذين كانوا يصطحبونني في الصحراء، وياسين بالأغنج، وصاحبته حوريّة، والعذراء أمّ الزّين، والمقدّم عبد الحفيظ، وأناس كثيرون لم أتبين ملامحهم في العتمة. كلّ منهم يلوّح بسكّينه يريد غرسه في صدري وليس لي من مهرب. أصرخ : "أقرصيني يا أميمتي" وأحاول اللجوء إلى سيدي النّا... فإذا هو يصفعني كما لم يصفعني أبدا حين كان على قيد الحياة. وإذا هو يعلن للجميع حكما لا معقّب له بأنّ دمي مباح لمن أراد الانتقام ثمّ يتنحّى عن المنبر غاضبا عليّ.
اقرصيني يا خدّووووووووجة... لا أريد صعقات الكهربااااااااااااااااااء.

*****

لم تنته الكوابيس.
كابوس يجرّ كابوسا، يفضي إلى كابوس. وغالبا ما أعيش كوابيسي وعيناي مفتّحتان.
... جالس على بنك طويل في حديقة القصر المنيع. بحذائي رجل غريب وامرأة، في حضنها رضيع. قد يكونون هنا في زيارة لأحد المرضى، فلم يجدوا مكانا غير هذا للجلوس. أنا على كلّ حال مشغول عنهم بحذائي الذي انفكّ رباطه. أحملق فيه في صمت ولكنّني أشعر في داخلي بمخاض رهيب. أركّز على الحذاء حتّى تظهر لي سقيفة بيتنا في زنقة بريقشة.
أخيرا حلم سيضحكني بعض الشّيء. أو هذا ما يبدو لي على الأقلّ بالنّظر إلى الدّور الذي ألعبه فيه. فسقيفتنا تظهر لي وكأنّها أستوديو تصوير. الكاميرا منتصبة وأولاد نادي الفيديو كلّ في موقعه منصرف إلى مهمّته. هنا يجري تصوير شريط وثائقيّ عن مناسك غسل ودفن الشّهيد محمّد الأمجد بريقشة. الموضوع في حدّ ذاته يبعث على الضّحك. المشكلة الوحيدة، هي أنّني ميّت بالفعل. جسدي متجمّد. أبصر ما يدور حولي، ولا طاقة لي على التّدخّل في سير الأحداث. فها أنا بالفعل ممدّد على مغسلي المنتصب في وسط السّقيفة. وقد اشتعلت الكشّافات تسلّط عليّ أضواءها ولا تقدر على تغيير شيء في البرد الجليدي الذي عليه جسدي الهامد.
ما يبعث على العجب هو أنّ البّيه صبرية لم تعد خرساء. فها هي تصول وتجول في تنظيم المأتم. يبدو أنّها من تولّت لفّي في هذا الكفن الأبيض. بل يبدو أنّها من تسهر على إخراج الشّريط. وها هي تصدر الأوامر وتنظّم الدّاخلين إلى السّقيفة في صفّ مستقيم :
- هيّا اصطفّوا بنظام. لا أريد أن يبكيه أحد. عند إشارتي، يتقدّم كلّ واحد منكم فيسامحه ويخرج إلى الفناء دون تشويش.
يرتفع صوت المقرئ الشّيخ علي البرّاق من جهاز تسجيل، مرتّلا سورة الزلزلة. وتتابع الكامرا دخول المسامحين يتقدّمهم عامر البينتو منتفخ الصّدر مفتوح أزرار القميص. من الذي سمح لهذا الحلّوف بحضور مأتمي ؟ تدوّي صرختي في داخلي ولكن لا أحد يسمعني. أرى أختي رشيدة تدخل محتضنة رضيعها الذي يأخذ في البكاء بصوت مرتفع. فتأخذ هي في إسكاته محدّثة إيّاه بصوت طفوليّ :
- هيا اسكت يا مهنّد ... اسم الله على وليدي. يزّي بابا يزّي. نسامحو فيسع خالي مجدة ونخرجو.
تنظر البّيه صبريّة إلى رشيدة شزرا لتعاتبها. فتخرج رشيدة ثديها وتضع حلمتها في فم وليدها فيرضع حتّى يسكت أخيرا. ولكن، ماذا يفعل هذا الكاميرامان ؟ إنّه لمجنون. لم يترك الفرصة تمرّ دون أن يضيّق إطار الصّورة على ثدي أختي. أمّا أنا فكلّ تركيزي على هذه القهقهة التي تلعلع بداخلي : ابن أخت محمّد الأمجد بريقشة اسمه مهنّد، تماما على اسم ذلك الرّجل في المسلسل التركي الذي يبثّ علينا في قاعة التلفزة كلّ مساء. الحمد للّه على أنّني متّ قبل أن يكبر. وإلاّ لاضطررت إلى التّعوّد على مناداته هكذا. ولكنّ الأشنع من هذا الاسم هو هذه المحرمة الغريبة على رأس رشيدة، والتي لا هي غطاء رأس عادي ولا حجاب فارسي، وكذلك هذه اللحية المتردّدة التي تكسو وجه زوجها العيّادي التّوهامي الدّاخل وراءها. إنّها لحية تذكّرني بحديثي الالتحاق بجماعة فلوس القاز. أرى أنّ أحدا لا يسمعني دائما. ولكنّ هذا لا يمنعني من الصّمت. الله يستر باب تونس. هذا فقط ما يمكنني قوله.
بعد زوج أختي تدخل كارلا بيكولو زوجة عامر البينتو وهي تدفع كرسيّا متنقّلا. ما لا أفهم له مغزى هو أنّ أمّي هي التي تجلس على هذا الكرسي. ثم إنّ وجهها لا تظهر عليه أيّ علامة حزن، وكأنّ الميّت لا يمتّ إليها بصلة. لم أكن أتصوّر أن يصل غضب خدّوجة الجعيّد عليّ إلى هذا الحد. ثمّ لماذا كارلا بيكولو هي التي تساعدها ؟ لو كان في هذه الدّنيا منطق لكان على زوج رشيدة أن يهتمّ بأمّي ويدفع كرسيّها. ولكن يبدو أنّ الأغراب أكثر منّا إنسانيّة وشفقة.
ختاما، يسود الصّمت. ويصطفّ الجميع بكلّ احترام في انتظار أن تعطي البّيه صبرية إشارة انطلاق مراسم السّماح. ولكن ها هي راضية بنت كحلة تجيء متأخّرة وتلتحق بالمسامحين جارّة زوجها النّاجي العجل، موشوشة له في أذنه وهي لا تتمالك من الضّحك.
إذا كان تصوير مأتمي في شريط وثائقيّ من شأنه أن يضحك مادام راضية، فأنا لم تعد لي رغبة في الضّحك البتّة. فقد ذكّرني قدومها بأنّ عيشوشة ليست هنا. فلماذا تتغيّب عيشوشة عن مأتمي؟ ولماذا لا تجيئني بابنتي ميارى ؟ البّيه صبريّة أيضا ليست لها رغبة في الضّحك. وها هي تنهر راضية بنت كحلة :

- عيب يا راضية عيب. الكامرا تدور. وهذه وثيقة ستبقى للتّاريخ. فماذا سيقول عنّا التّاريخ يا عزيزتي وهو يشاهدك تقهقهين هكذا ؟
يبدو أنّ لكلمة التّاريخ، هذه التي نطقت بها البّيه صبريّة مفعولا سحريّا. فقد بدأ شريطها الوثائقيّ يتحوّل إلى مأتم بالفعل والواقع. فقبل أن يؤذن لأيّ كان بالاقتراب منّي، يستحيل حلمي إلى كابوس. فلا كاميرا ولا كشّافات ولا أيّا من أولاد نادي الفيديو. وفي المقابل، تستحيل سقيفتنا إلى مغارة بونيّة، وبالذّات إلى تلك التي كانت قد أقيمت لي فيها محاكمة في كابوس سابق. فإذا مغسلي يحاصره كلّ أولئك الهاجمين عليّ بسكاكينهم.
وفجأة يقتحم المغارة رجل قادم من رحم الأمواج. يقول إنّه عدل منفّذ، وإنّه آت من سنة 2027. وها هو يصيح في الجميع :
- أوقفوا كلّ شيء. لا يمكن أن تبدأ مراسم السّماح قبل أن أفضّ مشكلة هذه البوصلة بحضور الجميع.

تهمّ البّيه صبريّة بالرّدّ عليه ولكنّها تعود إلى حال خرسها فلا تجد الكلام. ويفتح العدل المنفّذ محفظته ليخرج منها ورقة يقول إنّها محضر تسليم هبة، ويطالب الجميع بالصّمت قبل أن يشرع في القراءة :
- باسم الله الرّحمان الرحيم
أمّا بعد، فإنّه في يوم السادس من مارس من سنة 2027، توجّهت أنا، الأستاذ كاف واو تاء، العدل المنفّذ بباب تونس، والمكلّف بهذه المهمّة من قبل الأستاذة شين باء ميم، محامية المتّهم المرحوم محمد الأمجد بن الحبيب بن البحري بريقشة. واتّصلت بالآنسة ميارى منصورة، المولودة في 6 مارس 2007، والقاطنة في حيّ العمران الآتي رقم (.....)، شقّة رقم (....)، بنت عامر بن محمّد صالح بن عثمان منصورة شهر عامر البينتو، وبنت عيشوشة بنت النّاجي العجل، كما تنصّ على هويّتها بطاقة تعريفها الوطنيّة رقم (.......).
وحيث توجّهنا إلى المقرّ المعيّن بالعنوان. وحيث وجدنا المعنيّة شخصيّا. وحيث شرحنا لها مهمّتنا وطلبنا منها الإجابة على أسئلتنا المتعلّقة بقبول العطايا الثلاث موضوع الهبة التي تبرّع لها بها المغفور له محمّد الأمجد بريقشة. فقد طرحنا عليها الأسئلة وحرّرنا عليها أجوبتها على النّحو التالي :
أوّلا : في خصوص بيت آل بريقشة الكائن في نهج باب تونس زنقة بريقشة عدد 2 والذي انجرّت ملكيته للواهب بالطّرق القانونية كما تثبته الشّهادة الزّرقاء المسلّمة من إدارة الملكية العقّارية المؤرّخة في (.....) والحاملة رقم (.......). سألنا الآنسة ميارى البينتو إن كانت تقبل هذه الهبة من المغفور له محمّد الأمجد بريقشة، فأعلنت قبولها بكلّ سرور. وبناء عليه سلّمناها مفاتيح المحلّ والشّهادة الضامنة تسجيله باسمها، وأمضت من ناحيتها على الاستلام في المكان المخصّص للغرض من مسودّة هذا المحضر.
ثانيا : في خصوص الظّرف المختوم الحاوي نتائج تحاليل طبّيّة تخصّ المتبرّع، والذي كانت محامية المغفور له سحبته من مخبر التّحاليل الجينية بمعهد باستور بتونس، بناء على قرار المحكمة إسقاط التّتبّع في القضيّة الموجبة للتّحليل. شرحنا للآنسة ميارى البينتو أنّ الظّرف المعروض عليها بقي مختوما كما كان يوم سحبه من المخبر، وذلك طبقا لإرادة المتبرّع الذي امتنع هو نفسه عن الاطّلاع على نتائج التحليل، حتّى لا يعلم بها أحد قبل أن يُسلّم الظّرف إليها يوم بلوغها سنّ الرّشد القانونية. ثمّ سألناها إن كانت تقبل هذه الهبة من المغفور له محمّد الأمجد بريقشة. وحيث أعلنت قبولها ببالغ الارتياح، فقد سلّمناها الظّرف المذكور. ولكنّها أصرّت قبل الإمضاء على الاستلام، على أن نشهد نـحن على المصير الذي آلت إليه هذه العطيّة على يديها وعلى أن ندوّن شهادتنا في وثيقة الحال حتّى تكتمل العمليّة في كنف الشّفافية.
وبناء عليه فإنّنا نشهد طبقا لما تخوّله لنا صفتنا، على أنّ الآنسة ميارى البينتو، بمجرّد تسلّمها الظّرف ودون أن تفتحه، عمدت إلى إحراقه مغلقا بحضورنا حتّى تفحّم بالكامل.
ثالثا : في خصوص البوصلة الموروثة من قبل الواهب عن خاله المرحوم النّاصر الجعيّد. أعلمنا الآنسة ميارى البينتو بالجهود المضنية التي بذلتها المحامية، بناء على طلب الواهب، حتّى عثرت على هذه القطعة الثمينة بعد ضياعها. وشرحنا لها مدى إصرار الواهب على أن تودع البوصلة عندها هي بالذّات ورجاءه بأن تحرص على المحافظة عليها إلى أن تؤول ملكيتها إلى خلفها من بعدها. وحين سألناها إن كانت تقبل هذه الهبة من المغفور له محمّد الأمجد بريقشة، اعتذرت الآنسة ميارى البينتو معلنة عدم حاجتها إلى بوصلة، رافضة الإمضاء على الاستلام.
وبناء عليه، وحيث بحثت عن المحامية شين باء ميم فقيل لي إنّها هاجرت للعيش في القارّة الأمريكيّة، فإنّني، طبقا لما يتيحه لي القانون وتخوّله التكنولوجيات الحديثة، توجّهت إلى شهر مارس من سنة 2009، حيث كانت تقام في تاريخه مراسم مأتم المغفور له محمّد الأمجد بريقشة، لأوقف تنفيذ الدّفن قبل أن يجيبني الواهب على هذا السّؤال :
ماذا أفعل بالبوصلة في صورة رفض الآنسة ميارى البينتو استلامها ؟
... صياح امرأة تطلب النّجدة يقطع عليّ الكابوس فينقذني من سكتة قلبيّة لا ريب فيها. لعلّها أختي رشيدة هي التي تصيح. ولكن، لئن كنت أشعر بما يشبه الوعي بأنّني مازلت حيّا وبأنّني موجود في حديقة القصر المنيع، فإنّني أشعر دائما بتجمّد كامل أعضائي كما في الكابوس. لذلك فليس لي إلاّ أن أستسلم للممرّضين الثلاثة الذين جاؤوا يأخذونني إلى قاعة الكهرباء...
*****


لم تنته الكوابيس.
كابوس يجرّ كابوسا، يفضي إلى كابوس. ولكن، كان لا بدّ أن ينتهي تشنّجي، وأن يسمح لي من جديد بالخروج إلى الحديقة. كان لا بدّ أن أتعوّد على المقرّ الذي اخترته للإقامة بقيّة حياتي، وأن تعود فراشتي إلى مؤانستي، وأن أحلم بالزّهور من جديد دون أن يسودّ الأفق في خاتمة المطاف.
...جالس وحدي في حديقة القصر المنيع الفسيحة. اليوم مشمس، والشّتاء يلملم أواخر أيّامه دون أن يقوى الرّبيع على فرض حضوره. أشجار اللوز على يميني وأشجار المشمش على يساري، وجميعها قد طرحت بعدُ زهورها، وتبارت في طلب ودّ فراشتي المتجوّلة بين البتلات البيض والورديّة، ناقلة بين الزهور تبادلها البوح بنشوة بعثها الجديد. جالس وحدي في حديقة القصر المنيع الفسيحة، أحلم بمحاميتي.
الحلم أعطر من كلّ الزّهور وأجمل من كلّ ربيع. أوّل حلم في يقظتي أخرج فيه عن صمتي ولكن دون كلام. محاميتي تقترب من مقعدي، ودون مقدّمات، تهمس في أذني "يسلّم عليك سفيان". ثمّ تفتح حقيبتها اليدوية لأرى فيها بوصلة سيدي النّا...
نعم... البوصلة.
نعم... سلام من سفيان الجريدي، يخترق المسافات، يخترق جدران القصر المنيع ويصل إليّ.
نعم ... كنت واثقا منذ البداية من أنّ محاميتي كانت تصدّقني حين كنت أحكي لها أحلامي وتفاصيل رحلتي. كانت مؤمنة بوجود بوصلة سيدي النّا... مصدّقة بأنّها ضاعت منّي. وكنت من ناحيتي على يقين من أنّها ستجدها مهما طال بحثها عنها. ومع ذلك فبمجرّد أن رأيت البوصلة تلمع في حقيبتها اليدويّة، كاد قلبي يخرج من صدري، من شدّة فرحي.
كدت أفقد تركيزي على دوري، وأُضيعُ نهائيّا أثَرَ طيرانِ فراشتي. ولكنّني تماسكت في آخر لحظة. مسكت محاميتي من يدها مبتعدا بها عن أنظار المرضى. وقفت وإياها بحذاء شجرة لوز قصيرة ومسكت برفق غصنا مزهرا لأقرّبه منها حتّى تفهم جيّدا قصدي. ثمّ مددت يدي إلى حقيبتها اليدويّة كما لو أنّني كنت أريد أخذ البوصلة. فتركتني أفعل وفتحت الحقيبة لمساعدتي. ولكنّني أخذت منها قلما وكتبت به على راحة يدها "هدية عيدها العشرين. فمن يدري ؟". ثمّ أطبقت أصابعها على ما خطّه القلم. وأطبقت حقيبتها اليدويّة على بوصلة سيدي النّا...، وبقيت أنظر مباشرة في عينيها حتّى رأت عينيّ كما لم ترهما أبدا من قبل تلتمعان. وشددت طويلا على يدها، في صمتٍ محمّلٍ بكلّ امتناني.
بقينا هكذا صامتين، إلى أن سالت على خدّها عبرة. عبرة قالت لي إنّ محاميتي نفذت من كلّ سرّي إلى أعماقه، واستوعبت تماما قصدي. عبرة كانت منها وعدا ووداعا...

همّت بأن تقول لي شيئا ولكنّها لم تستطع. فاستدارت لتنصرف، وتركتني محاطا بأشجار اللوز، أتابع بالنّظر تحليق فراشتي بين أزهار ربيع مازال يرغب في مزيد التّأخّر عن المجيء.


الهكواتي

انتهت الرّواية / الغزالة في 06 مارس 2009


وانتهت سنتي على جناح السّرد، فأهلا بكم في النّادي الثّثافي الطّاهر الحدّاد لمائدة مستديرة حولها




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القصة والتراث

تكريم الهكواتي

أنا أيضا ... حوماني